كرم نعمة يكتب:
الحقائق تحت طوق الحصار
كان الخبر الأكثر طلبا خلال هذا الأسبوع، لكن لا أحد من وسائل الإعلام ولا مراسلي وكالات الأنباء العالمية في العراق استطاعوا الحصول عليه، كما لم يفعل أي من السياسيين الذين “يؤمنون” بحرية تبادل المعلومات في تسهيل تمرير مثل هذا الخبر!
قاسم سليماني زعيم فيلق القدس الإيراني تواجد في بغداد لإعداد خطة تساعد الأحزاب الحاكمة على إيقاف الانهيار واختيار بديل لرئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي، وتهيئة الميليشيات للسيطرة على الأوضاع مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية.
مثل هذا الخبر الأهم موجود ومتداول، لكنه لا يمتلك مواصفات المادة الإخبارية الموثقة، وليس ثمة وسيلة إعلام عراقية أو مراسل صحيفة عالمية استطاع الحصول على تفاصيل محتواه، لسبب يمكن أن نعزوه ببساطة إلى خنق الحقيقة الذي تمارسه السلطات العراقية.
فلا الحكومة العراقية تؤمن بشكل صادق بما تزعمه عن حرية تبادل المعلومات وإطلاع الجمهور على الحقائق ولا وسائل الإعلام تمتلك القدرة والإمكانية للحصول على مثل هذا الخبر الأكثر طلبا اليوم.
هذا ما يصفه روبرت رايش أستاذ السياسة العامة بجامعة كاليفورنيا ووزير العمل الأميركي الأسبق، بأن الحقائق تعيش تحت وطأة طوق الحصار. مع أن الحفاظ على الحقيقة كمعلومة مشتركة بين الجمهور يعني أن المجتمعات تسلك أفضل الطرق للحوكمة الرشيدة ومنع التغوّل وإيقاف ماكنة الفساد.
إنه لأمر رائع أن يضع هذا السياسي قائمة نصائح من أجل حماية الصحافة ومنع تدهور محتواها، هذا لم يحصل إلى حدّ الآن في عالمنا العربي، لكن رايش يقترح علينا قائمة من النصائح المفيدة من أجل كسر الحصار المفروض أكثر من أي وقت مضى على الحقائق في الصحافة.
ويختار أستاذ السياسة العامة، الرئيس الأميركي دونالد ترامب مثالا جيدا، مع وجود عدد كاف من الناس يثقون بكلامه على تويتر أكثر من الاستعانة بوسائل الإعلام، وهذا أمر يساعد ترامب لقول أي شيء والإفلات من المسؤولية على تداعيات ما يغرد به.
حساسية ترامب لا يمكن أن تصل بأي حال من الأحوال إلى حساسية وسائل الإعلام والمسؤولية المترتبة عليها، ومع ذلك يوجد من يثق بكلامه بوصفه رئيسا يمارس دور الناطق الصحافي باسمه، أكثر من الثقة بصحف مرموقة.
لسوء الحظ هناك شريحة متزايدة من الجمهور لم تعد تثق في وسائل الإعلام باعتبارها المصدر الموثوق لتداول الحقيقة.
ووفق تقرير استقصائي لمركز بيو للأبحاث يوجد 18 في المئة فقط من الأميركيين لديهم ثقة عالية في وسائل الإعلام الوطنية عام 2016، وعند العودة إلى عام 1972 نجد أنه كان يماثل هذه النسبة ما مقداره 72 في المئة ممن يثقون بوسائل الإعلام، يمكننا فهم التأثير الكامن في هذا التراجع ببساطة؛ أن الحقيقة خنقت على مدار 44 عاما.
كم نبدو بحاجة إلى استبيان معادل في عالمنا العربي من أجل شيء ولو ضئيل عن الحقيقة الغائبة “هل كان القارئ العربي يثق بوسائل الإعلام من قبل أصلا، كي تتراجع الثقة بها في العصر الرقمي؟”.
يمكن أن نعزو غياب الحقيقة في جزء كبير منه إلى خضوع وسائل الإعلام إلى الحكومات والممولين، كما يمكن أن يعزى غياب الحقيقة في وسائل الإعلام الغربية إلى التركيز على زيادة الأرباح وتلبية ما هو شعبي أو مثير بدلا من التركيز على ما يحتاج الجمهور إلى معرفته.
ومثلما يمكن للشخصيات الشهيرة والمثيرة أن تقود وسائل التواصل الاجتماعي لتكون هي مصدر الأخبار أكثر من وسائل الإعلام المحترفة. فإن ترامب على سبيل المثال بوصفه الأشهر اليوم بمثابة صحيفة تابلويد ونسخة من برنامج تلفزيون الواقع المغري حدّ الإدمان! تماما مثلما وصفه ليز مونفز الرئيس التنفيذي السابق لشبكة “سي.بي.أس” بقوله “إن مسار دونالد ترامب للبيت الأبيض قد لا يكون في مصلحة أميركا، لكن من المؤكد أنه أمر رائع لشبكتنا التلفزيونية”!
كيف إذن يمكن لصنّاع الأخبار وناشري الصحف استعادة الثقة العامة للجمهور؟ يطلق روبرت رايش هذا السؤال ويقترح علينا كصحافيين مجموعة إجابات “لا تنسوا أنه يتحدث كسياسي مهتم بكسر حصار الحكومات عن الحقائق” وهذا أمر يدعو لارتياح الصحافيين بلا شك.
ويرى رايش أن طريق إنتاج القصص الإخبارية بذكاء ودقة يتطلب أن يكون بيد صحافيين مستقلين عن مدراء وسائل الإعلام المرتبطين بالممولين أو الحكومات. لا يمارس عليهم أي ضغط أو توجيه أناني من أجل مصلحة تجارية.
كما يجب على وسائل الإعلام أن تتحقق من الوقائع بشكل لا لبس فيه قبل أن تنشر قصصها الإخبارية ولا تقع تحت رغبة النشر المستعجل، كما يتطلب منها القيام بأي تعديلات لاحقة للأخبار وإعلام الجمهور بالتصحيحات.
من أجل المحافظة على الحقائق، وسائل الإعلام مطالبة بطريقة واضحة أن تفصل الأخبار عن التحليلات والآراء. كما أن مصداقية الناشر تقترن بإعلانه الواضح عن الجهات الممولة والمستفيدة من نشر أي قصة إخبارية، كي يكون الجمهور على بينة بين أن يطالع مادة خبرية مخلصة لجوهر الصحافة وبين الخدمات الصحافية مدفوعة الأجر.
ومن أجل ثقة الجمهور الثمينة، فإن وسائل الإعلام ينبغي أن يكون لديها فريق عمل يتحقق من شكاوى الجمهور على ما ينشر والتحقق منها، ذلك أقرب الطرق لاستعادة بريد القراء الذي قطع ما بين المرسل والمستقبل في العصر الرقمي.
يطمح روبرت رايش أن يجد وسائل إعلام لا يتم تمويلها من قبل حكومات غير ديمقراطية ولا رعاة تجاريين تحركهم المصالح المالية، بيد أن ذلك الطموح يكاد يكون مثاليا في عصر ما بعد الحقيقة، عندما نعرف أن سياسيين ورجال دين فاسدين صاروا يديرون اليوم مؤسسات إعلامية كبرى.