رشيد الخيُّون يكتب:
أنا وفعل ليس النَّاقص
تعلمنا في المدارس أن “ليس” فعل ناقص، مِن أخوات كان، يفيد النَّفي. يستخدم عادة في الحكي بالفصحى، ولا يفيد اللهجة العاميّة، وإن استخدم فيها فتكلّف. يرفع الاسم وينصب الخبر، وإذا تقدم الجار والمجرور يكون العكس. مع أنه إحدى أخوات كان أو إخوانها، إلا أنه لا تصاغ منه صيغة مضارع ولا صيغة أمر، يبقى فعلا ماضيا وناقصا أيضاً، بينما كان يأتي بالصيغ الثلاث: كان ويكن وكن! ولا أعلم ما قيمة هذه الأخوة بين ليس وكان، ولماذا هذه الأخت تسمى فعلاً.
تعلمتُ “ليس” في المدرسة، مثل بقية الأفعال والحروف، كنا لا نسأل وإذا سأَلنا لا نجاب من قِبل معلمنا الذي تخرج من المدرسة الريفية في الأربعينات، وذهب مرة للحج فاستبدل الأستاذ بـ”الحجي”، وإلا كان السؤال حاضراً في الذهن، لماذا هذه الأفعال ناقصة، ولماذا “أن” تسمى حرفاً وهي تتألف مِن حرفين.
غير أن فعل “ليس” الناقص رسخ في ذاكرتي مِن موقف حصل معي، وليس مِن تَعلمه في المدرسة. أتذكره عندما أسمعه يأتي على لسان مذيع أو خطيب أو أقرؤه في كتاب وصحيفة، وظل معي كخيالي، فالكثير مِن المواقف والأماكن قد نتذكرها بشم رائحة أو سماع كلمة.
كنا تخرجنا، وخلصنا ما علينا مِن الخدمة العسكريَّة، الإجباريَّة، وكانت مدتها أربعة شهور فقط، قضيناها في العزل، لأسباب لا أخوض بها الآن. وبعد الانفكاك قدمنا أوراقنا إلى التعيين كمعلمين، وذهبنا إلى الفحص الطبي ببغداد، وكان العدد أكثر من ألف متخرج، والكل أُخذت له أشعة للصدر، للتأكد من عدم وجود مرض السُّل.
أتيتُ لأخذ النتيجة في ظرف مطوي، سلمتها للجنة التعيين، ولما فتحوها، قالوا: لست مشمولاً بالتعيين! فقلتُ لماذا؟ قالوا: الفحص غير سليم لعدم وجود ليس أمام العبارة “به تيبي” أي السُّل، وبقية الألف مِن زملائي كتب لهم “ليس به تيبي!”، فقلت: أنا سليم ليس بي مرض، ارجع ليكتبوا لك “ليس”!
عدتُ إلى مكان الفحص في المستشفى الجمهوري، ودخلت إلى قسم الأشعة، وقلتُ لهم “لجنة التعيين تريد كتابة ليس في ورقة الفحص”. فقام أحد الشعاعيين ونهرني، وكيف تريد وضع “ليس” وأنت مريض! و”ليس” لا تُكتب إلا للخالين مِن هذا المرض. خرجتُ قلقاً ليس على الوظيفة إنما مِن المرض، ومِن تفرق زملائي عني فيما إذا علموا بمرضي المعدي والخطير آنذاك.
كررت العودة إلى لجنة التعيين، فقالوا: لا تعيين دون “ليس”، والفحص أكد مرضك! لجأت إلى أحد المعارف، فذهبتُ معه، فأخرج الشعاعي أشعة صدري، ونظر فيها مرة أخرى، فتبسم، وكتب “ليس به تيبي”. قال: ليس التي تطلبها، سقطت عند كتابة العبارة، ولم تحصل إلا معك!