كرم نعمة يكتب:
الصحافة لم تعد صانعة ملوك
لن يكون التاريخ في صف بوريس جونسون إذا فكر باستعادة الحلم السياسي لغيرهارد شرودر من أجل أن يكون المستشار الألماني آنذاك عندما قال “أنا بحاجة إلى صحيفة بيلد يوم الأحد من أجل أن أتولى الحكم”. في الوقت نفسه، لم تقل الصحيفة الأكثر تداولا في ألمانيا، إنها بحاجة إلى شرودر لتبقى أكثر تداولا.
لن يتكرر مثل ذلك مع جونسون، فلم يعد بمقدور الصحافة البريطانية -مع قوة تاريخها- أن تقوم بما قامت به بيلد مع المستشار الألماني في يوم ما.
الصحافة لم تصنع رئيس الوزراء البريطاني في الانتخابات التي هزت البلاد هذا الاسبوع، لقد فعل بوريس ما يرى أنه النجاح عندما سخّر مهاراته الخطابية في الحملة الانتخابية. كما لم يتردد في نشاطات شعبوية من بينها جز صوف الأغنام، وتغيير إطار سيارة “فورمولا 1”. فقد كانت تلك طريقته لتلميع صورته كرجل مقرب من الناس رغم تخرجه من كبرى الجامعات البريطانية. ولم يعول كثيرا على الصحف مع أنه متخرج من أعرقها! لقد بقيت نصيحة كايل بوب رئيس تحرير مجلة “كولومبيا جورنالزم ريفيو” في الهامش ولم تشكل درسا ثمينا للصحافيين البريطانيين، وهم يعيشون صدمة الانبهار والاستياء معا بصعود زميل سابق لهم إلى رئاسة الحكومة البريطانية، قائلا “لا تدعوا بوريس جونسون يكون رئيس تحريركم ولا تدعونه يملي عليكم الأخبار”. قال بوب الذي يرأس تحرير المجلة الأكثر أهمية في نقد الأداء الصحافي، وهو يخاطب الصحافيين البريطانيين المستقلين “عليكم أن تكونوا صادقين مع أنفسكم قبل جمهوركم وأنتم تعيدون تعريف جونسون ودوافعه، لا تدعوه يملي عليكم ما يريده لمجرد أنه مهر اللعبة الصحافية”.
في الواقع لم يعوّل جونسون على الصحافة في إعادة وصوله إلى 10 داوننغ ستريت، كما عمل شرودر المستشار الألماني سابقا مع صحيفة بيلد لتولي الحكم.
كما لم تنجح الصحافة في تحريض الرأي العام على جونسون، بل شهدت الحملة الانتخابية مستوى غير مسبوق من الانتقاد للصحافة البريطانية.
يتساءل جيم واترسون المحرر في صحيفة الغارديان عما إذا كانت وسائل الإعلام قد فقدت قدرتها على التأثير في توجيه الرأي العام، وهل انتهى زمن صناعة الملوك في اجتماعات غرف تحرير الصحف؟ ويرى واترسون وهو يحلل طبيعة العلاقة بين الصحافة والجمهور بعد الانتخابات البريطانية، أن مهاجمة وسائل الإعلام أمر طبيعي، بسبب سرعة استدعاء الأخطاء من قبل الجمهور. لكن ماذا بشأن قدرتها المهتزة في التأثير على الجمهور نفسه!
أظهر بوريس “رئيس الوزراء الوحيد الذي يخاطب باسمه الأول”، أنه من الممكن تخطي المقابلات الصحافية الصعبة دون معاناة لاحقة في صناديق الاقتراع، واكتفى بحملته عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي متجاهلا وسائل الإعلام التقليدية في سابقة تاريخية في السياسة البريطانية.
لقد تخلى الجمهور الشاب عن الأخبار التلفزيونية إلى حد كبير، فيما صارت نشرات هيئة الإذاعة البريطانية تعول على المشاهدين الأكبر سنا وغالبيتهم يؤيدون حزب المحافظين برئاسة جونسون في إحساس متأخر بالهوية.
وبينما تنهار مبيعات الصحف ذات الحساسية والمسؤولية العالية وتنامي جمهور الأخبار على الإنترنت، لا تزال الصحف الشعبية اليمينية التي تدعم المحافظين بلا هوادة تبيع ملايين النسخ يوميا وغالبا ما تساعد بشكل غير مباشر في وضع أولوية الأخبار على المحطات التلفزيونية وعلى المواقع الإلكترونية. الصحف البريطانية تشعر بمأزقها في تراجع التأثير، وهي تترقب الدراسات الأكاديمية بشأن نتائج الانتخابات وكيف حصل الذي حصل، ما تأثير الصحافة اليوم على الناخب، وكيفية حصول الناس على أخبارهم بشأن الطيف السياسي.
تنقل صحيفة الغارديان عن ريتشارد فليتشر الباحث في معهد رويترز بجامعة أكسفورد، القول “إن الجميع يترقب التوصل إلى فهم واضح عن تأثير إعلام الإنترنت على نتيجة الانتخابات، معبرا عن اعتقاده بأن علينا أن نأخذ تلك النتيجة على محمل الجد لفهم تأثير وسائل الإعلام على مستقبل السياسيين”.
يذكر فليتشر بأن أغلب الناخبين الذين صوتوا لحزب المحافظين هم أقل عرضة للوصول إلى الأخبار المتعلقة بالانتخابات عبر الإنترنت. وذلك لا يمنع من القول بأننا قد أصبحنا مستهلكين سلبيين للأخبار على هواتفنا.
لا يمكن لأحد التوصل إلى نتيجة أن الزعماء السياسيين قرروا التخلي عن الصحف لإيصال أصواتهم إلى الناخب وتفضيل طريقة الهواتف الذكية. بل إن الواقع يقول إن غالبية الجمهور لا تركز في تصفح العروض والبرامج المعقدة للناخبين على هواتفهم، وينصح خبراء الدعاية الإعلامية السياسيين بتبني سياسة “الصراخ المستمر” من خلال أكبر عدد ممكن من القنوات المختلفة.
سبق وأن أجرت صحيفة الغارديان البريطانية تجربة على الجمهور بشأن طريقة استهلاك البيانات عبر الهواتف الذكية، ووجدت أن غالبية المستخدمين يفضلون معرفة الأخبار من خلال العناوين الرئيسية، وعدد قليل منهم يفضل قراءة القصص كاملة. عندما كان الجمهور يركز على أخبار النشرات الإذاعية والصحف المطبوعة، كان يمكن للباحثين تكوين فكرة جيدة عما يقرأه الناس ويشاهدونه ويستهلكونه. فإذا ارتكب أحد السياسيين خطأ في برنامج تلفزيوني شاهده عشرة ملايين شخص، يتضح الأمر أيضا إلى عدد آخر مضاف من الناس، وإذا باعت صحيفة مطبوعة أربعة ملايين نسخة في اليوم، كما فعلت صحيفة “ذي صن” الشعبية في تسعينات القرن الماضي، يسهل معرفة تأثير طبيعة خطابها.
لكن الأمر لا يبدو واضحا عن نتائج استهداف الجمهور على الإنترنت، إلى درجة أن تغريدة واحدة قد تصل إلى ملايين المستخدمين دون أن يعرف الصحافيون والمشرفون على حملات الدعاية للسياسيين. لا يمكن لنا في النهاية معرفة ما إذا كان الناس يقرؤون بشكل مؤثر عبر الإنترنت ما يصلهم لاعتماده مصدرا.
لذلك يخشى الصحافيون من نتائج الأضرار التي لحقت بهم وما زالت مستمرة عن طريقة إيصال الخطاب والتأثير على العقول.
وهذا ما يمكن وصفه بأن وسائل الإعلام البريطانية بكل تأثيرها التاريخي وضعت خططها، لكنها تعرضت للهزيمة أمام مزاج واعتبارات الجمهور الذي لم يعد يعول عليها.