طاهر علوان يكتب:
حياة متطورة تكدرها الجريمة والمخدرات في "كود 8"
مدن المستقبل الذكية هي التي تنتظرها البشرية، مدن افتراضية خيالية تجعل حياة البشر أكثر يسرا. ذلك مدخل تبسيطي يحاول فيلم “كود 8” الولوج إليه ليقدّم لنا صورة حياة مدنية أكثر رفاهية وسعة للبشر.
لعل الخيال العلمي يمضي بعيدا في رسم المدن الفاضلة والمدن الافتراضية وكيف تجري تفاصيل الحياة اليومية فيها. وفي كل الأحوال بدا أن تجارب سينما الخيال العلمي وهي تقدّم صورة تلك المدن الرقمية الذكية قد ركزت في ما ركزت عليه على عنصرين أساسيين؛ وهما حياة المجتمعات وحياة الأفراد اليومية وشكل السلطات التي ستؤول إليها تلك المجتمعات.
ولن يخرج فيلم “كود 8” للمخرج جيف تشان عن هذا الإطار، لكنه وفي الوقت نفسه يتوسّع فيه، حيث تتكرّر معاناة البشر في تلك المدن المتطوّرة، فما زال الفقر يتهدّدهم والبحث عن العمل همّهم الدائم. أما على الجهة الأخرى، فالاستغلال يلاحق البشر فيما تزداد السلطات الحاكمة شراسة.
هنا سوف تتطوّر السيطرة على البشر إلى مستوى يقترب من الخيال، الحوامات ذات المراوح الأربع ترصد كاميراتها وجوه الناس وتستطيع فتح ملفات التعريف بهم حيث تحمل كل حوامة شرطة روبوتيين شديدي الشراسة وسريعين في القتل.
يبرز هنا كونور (الممثل روبي أميل) الذي يعيش مع والدته وهو يسعى لعلاجها من مرض السرطان الآخذ بالانتشار في جسدها، وحيث يجري إذلالها من قبل مديرها في العمل، وكونور هو الذي من خلاله سنكتشف طبيعة ذلك المجتمع الغامض، لنجده غارقا في الجريمة والانحرافات بشكل لم يختلف كثيرا عن الماضي.
في بحثه المستمر عن عمل يجد كونور نفسه في وسط عصابة لتهريب المخدرات والسرقة، ونكتشف أيضا أن ذلك المكان يجتمع فيه الكثير من الخارقين، ومنهم كونور نفسه الذي بإمكانه إيذاء خصومه بالصعق الكهربائي.
سوف يحتاج كونور وسط أولئك الخارقين إلى من يمتلك طاقة لشفاء أمه من السرطان، وبذلك يعثر على نيا (الممثلة كايل كين) التي بإمكانها شفاء المرضى، وبذلك تساعد كونور في التخفيف من عذابات والدته.
في المقابل سوف يدخل كونور وسط عصابات محترفة في القتل والسرقة والتهريب، حيث تقوم بجمع ضحاياها، وفي مقابل المال يجري سحب النخاع الشوكي من الضحايا ليتم بواسطته إنتاج نوع من المخدرات شديد التأثير.
سوف يتحوّل الفيلم في بنائه الدرامي وبالتدريج إلى نمط الحركة والعنف والملاحقات البوليسية والجريمة، وكما هي الحال في العديد من الأفلام المشابهة سنعود مجددا إلى مستوى من الانقسام بين العصابات وملاحقة بعضها بعضا، ثم استيعاب كونور طرفا في تلك اللعبة.
لا شك أن المعالجة السينمائية بدت أكثر واقعية، حيث ظهرت التطورات في المدينة المستقبلية بشكل طبيعي ومتدرج إلى درجة التفاعل مع المكان في شكله الواقعي ليزيح الكثير من المهام الروتينية الثقيلة.
ولنتحوّل في وسط كل هذا إلى ذلك العامل النفسي المؤثر الذي تم الزجّ به في الأحداث من خلال الصراع النفسي لكونور، وهو يتجرّع كؤوس القهر والذل خلال محاولته توفير المال لمساعدة أمه وتغطية نفقات علاجها، إذ يجد نفسه في دوامة مؤذية لا تكاد تنتهي.
الدوامة التي يغوص فيها كونور تكشف عن هشاشة ذلك المجتمع الافتراضي الذي يعيش فيه، وأن محاولة تجميله تبدو غير مجدية، إذ تخوض عصابات المخدرات صراعاتها حتى النهاية ومن دون أن تلتفت إلى ما حولها، لأنها صاحبة القرار. فهنالك في الغالب مواجهات شرسة لن تنتهي في هذا الفيلم، فضلا عن التفنّن في ملاحقة العصابات لبعضها البعض.
وما بين البعد الإنساني العميق في محاولة كونور إنقاذ والدته والأموال الطائلة التي تطلبها إدارة المستشفى لعلاجها وبين اضطراره للانضمام إلى العصابات التي تنتشر في كل مكان تقريبا، سوف نلحظ تشابكا في خطوط السرد وفي أداء الشخصيات وكأننا وسط دوامة لا تنتهي.
أما على صعيد البناء المكاني فقد وظف الفيلم تنوعا مكانيا ملفتا للنظر، سهل الانتقالات المتكرّرة التي تطلبها الإيقاع السريع في بعض المشاهد، مع أن تلك السرعة في الأحداث لم تكن تتناسب في بعض الأحيان مع الطبيعة الواقعية التي كرسها هذا الفيلم سواء من ناحية الشخصيات أو الأماكن.
وعلى الصعيد البصري أيضا يلاحظ عدم الإسراف في تقديم صورة الواقع الجديد الغارق في التكنولوجيا، ولم يكن هناك ما يستدعي الإمعان في اغتراب الشخصية وهي تعيش استلابا سببه السلطات المستبدة التي لا ترحم من جهة والبحث عن فرصة للعيش داخل الأسرة الواحدة.
وفي المحصلة، لم يبدُ مجتمع المدينة المتطورة في “كود 8” مجتمع مدينة فاضلة على الإطلاق، فهو مكان تلاحقه طائرات درونز القتالية المدجّجة بالشرطة الروبوتيين، الذين بإمكانهم أن يجهزوا على أي شخص يُشتبه فيه ويردونه قتيلا كما حصل في العديد من الحالات.
ومن هناك نجح المخرج وكاتب السيناريو في تقديم أحداث متسلسلة في واقع غرائبي مستقبلي، لكنه لم يتخلص من رواسب وآثام وانحرافات الماضي