رشيد الخيُّون يكتب:

حمامة القناص

لعلَّ أول عمل مارسه الإنسان هو “القنص”، مع عدم تجاوز الأستاذة سلام خياط في “البغاء عبر العصور.. أقدم مهنة في التاريخ”(رياض الريس 1992). لكن حرفة الصيد، أو قبل أن يكون حرفة تختص بها فئة من النَّاس، استخدم الإنسان أدوات، كالحجارة والعصا إلى تسخير الحيوانات والطُّيور لقنص بعضها بعضا لمصلحته، كالكلاب، مع خسة هذا الكائن الرائع في أغلب الدِّيانات، والصقور أو الشواهين، والأسماء تتعدد في هذا الجنس مِن الطّيور.

ذكر الجاحظ في كتابه “الحيوان” أنواع الصقور والشواهين، وكيفية القنص بها، وأي الطّيور التي تستخدم في قنصها أو صيدها، وأبرزها الحبارى، والأخيرة لديها سلاح، ولكن يخيب في معظم الأحيان، وهو فرز أو قذف مادة زيتية على الصقر فيعجز عن الطيران. قيل: إن العراق مِن البلدان الغنية بالحبارى، يقصد القناصون الصقارون صحارييه، من كل حدب وصوب، وقصة القناصين القطريين مشهورة، أن تفك أسرهم ميليشيا مقابل خمسمئة مليون دولار، والعجب العجاب أن جهات رسمية عراقية كانت وسيطة في الصفقة، لهذا ابتعد الكثيرون عنه في مواسم قنص الحبارى، فوجهوا وجوههم إلى باكستان وبلدان ما بعد نهر جيحون، وحتى أفغانستان صارت أكثر أمانا منه.

كان القاضي عبدالله بن المبارك (ت 181هـ)، إضافة إلى مهنة القضاء، وعلى جلالة قدره، التي قيل فاقت جلالة هارون الرشيد (ت 193هـ) مربيا للشواهين، وبائعا لها، فكان القناصون يشترونها منه، مؤكدا أنها تكون مدربة أو هم يقومون بتدريبها بما يتفق مع فنونهم في القنص. له قصيدة انتقد فيها قاضيا وفقيها فاسدا، يستغل الدِّين لتجارته. قال فيها “قد يفتح المرء حانوتا لمتجره/وقد فتحتَ لك الحانون بالدِّينِ/صيرت دينك شاهينا تصيد به/وليس يفلحُ أصحاب الشواهين” (ابن خِلكان، وفيات الأعيان)”.

يأتي القناص مع الصقر بحمامة حيَّة، ويضعها في مخبأة خاصة، يترك لها مجالا للتنفس، وتبقى هذه الحمامة تعاني منتظرة دورها المأساوي، مع أنها عُرفت من زمن نوح بحمامة السَّلام، وهي التي عادت إليه بغصن أخضر دلالة على وجود اليابسة. فعندما يُخطئ الصَّقر أو الشَّاهين فريسته، يبقى يحوم في الجو، ولا يعود إلا بالتلويح بالحمامةِ وهي مشدودة بخيط، وإذا لم يأت يطلقونها، فيأتي عليها ويُسقطها فريسة له، وتترك حتى يتم نهشها، وفي الغالب تكون بيضاء اللَّون، أي لون السَّلام والسَّكينة!

عندما سمعتُ بخبر “حمامة القناص” وردت في خاطري مشاهد مؤلمة، صقور وشواهين تغرز مخالبها في الأجساد، ويقف بعيدا على الربوة طير “الرَّخمة” الضخم، ينتظر ما تبقى من الفريسة “حمامة القناص”!