الحبيب الأسود يكتب:
ليبيا بين عيد الاستقلال ونُذر عودة الاحتلال
احتفلت ليبيا الثلاثاء الماضي بعيد استقلالها الثامن والستين، في ظل مخاوف من عودة الاحتلال الأجنبي، ليكون هذه المرة تركيا، ويعيد تاريخ القرون الخمسة من الاحتلال العثماني الذي انتهى في بدايات القرن العشرين بتسليم البلاد للإيطاليين.
سيكون على الليبيين أن يدركوا طبيعة المخاطر التي تواجه استقلال بلادهم، فحكومة الوفاق المعزولة في قاعدة بوستة البحرية بطرابلس، انفصلت نهائيا عن الشعب والمجتمع والدولة والمؤسسات، وعن الإقليم والعالم، وعن الأمة العربية، وعن تاريخ الآباء والأجداد، لتختار التبعية الكاملة للنظام التركي، مستقوية بأطماعه التوسعية وبتآمره على العرب وعلى جيرانه من القوميات الأخرى، محاولا استرجاع صفحات الإمبراطورية العثمانية تحت غطاء الإسلام السياسي وعلى رأسه جماعة الإخوان.
في بدايات القرن السادس عشر، استنجد أهالي طرابلس بالسلطان العثماني باعتباره خليفة المسلمين ليحررهم من فرسان القديس يوحنا، وكانت النتيجة أن حررت قوات سنان باشا المدينة عام 1551 لتحتلها ولتضع يدها على كامل البلاد، وفي العام 1811 جاء الإيطاليون لتحرير ليبيا من العثمانيين فاحتلوها، وقررت الدولة العثمانية أن تسلمها لروما على طبق الوفاق في معاهدة لوزان الأولى للعام 1912.
واليوم يتجدد الموقف بدعوة الأتراك إلى طرابلس لتحصين حكومة فاشلة من غضب شعبها، ولمنع الجيش الوطني من تحرير أراضي بلاده من ميليشيات مارقة، ويلتقط رجب طيب أردوغان الحالم باستعادة الهيمنة العثمانية الدعوة، التي تأتي في ظل وضع عربي متردّ وخيانات بالجملة، ومحاولات قوى الإسلام السياسي ضرب ما تبقى من قيمة سيادة الدولة، بهدف تغيير مجرى التاريخ إلى الوراء، تجاوزا لإنجازات الدولة الحديثة والعقل الإنساني وإرادة الشعوب، ولما سمي بنهاية الاستعمار المباشر للدول، وللشرعية الدولية التي تحولت إلى أداة للدمار دون أن تكون لها القدرة على إعادة البناء، وهي شرعية أصبحت محكومة بنزوات الأقوياء والمغامرين، لا بالقانون والمواثيق والتعهدات.
ولكن ما الداعي لدعوة الأتراك إلى ليبيا؟ لقد أدرك فائز السراج أن تمترسه وراء الميليشيات والجماعات الإرهابية لن يفيده أمام تقدم الجيش الوطني الليبي، ويبدو أنه لم يكن قادرا على التقاط جميع المؤشرات الدولية والإقليمية، التي كانت تنتظر منه إما الإيفاء بتعهداته السابقة وفتح المجال أمام القوات المسلحة لتدخل العاصمة دون قتال، أو الخروج من المعركة بشرف معلنا لا الهزيمة أمام الجيش، ولكن الفشل في تحقيق أهداف ومخرجات اتفاق الصخيرات المبرم في ديسمبر 2015، وعدم القدرة على مواجهة تغوّل الميليشيات التي تتحكم فيه وبحكومته، وترفض الحل السياسي وتتمسك بالسلاح فيصلا في ملفات الحاضر والمستقبل.
كان على السراج أن يستمع إلى ضمير شعبه، وأن يقرأ تطورات الأحداث، لكنه يبدو أبعد ما يكون عن ذلك، فهو يعتقد أن المحيطين به من الإخوان وأمراء الحرب ومسلحي داعش والقاعدة الفارين إليه من المناطق المحررة، وحدهم من يمتلكون الحقيقة، وأنه طالما معه مسلحو مصراتة والزاوية وزليتن والأمازيغ فإنه منتصر، دون حتى الانتباه إلى موقف أهالي العاصمة، الذين دفعوا غاليا فاتورة تدمير مؤسسات الدولة عام 2011 وانتهائها إلى يد الإرهاب المتغول باسم الدين والثورة وبالدعم القطري التركي غير المحدود.
عندما ذهب السراج إلى إسطنبول في 27 نوفمبر الماضي للتوقيع مع أردوغان على مذكرتي التفاهم المشبوهتين، كان هدفه أن يبقى في كرسي السلطة الملوثة بعار التبعية، وأن يرضي الإسلاميين وقادة الميليشيات، دون أن ينتبه إلى أنه يرتكب جريمة في حق وطنه وشعبه، فالوطني الحق قد يختلف مع ابن بلده، ولكن لا يجلب الأجنبي إلى دياره ليستقوي به على ابن بلده، كما أن السياسي الحقيقي هو الذي يقرأ حسابات الواقع بكافة تجلياته الداخلية والخارجية، ويستشرف المستقبل من خلال التفاعل مع نبض الشعب، ويعرف متى يتقدم ومتى يتراجع، ومتى يدخل المسرح ومتى يغادره.
يخطئ السراج عندما يعتقد أن العالم سيتفهم دعوته الأتراك لاحتلال بلاده، فلا الدول العربية الفاعلة والمؤثرة ستقبل بذلك، ولا الأوروبيون سيقبلون بهذه الخطوة، ولا الأميركان ولا الروس، ولا حتى الأفارقة سيوافقون على تحويل بلد في حجم وموقع ومقدرات ليبيا إلى مستعمرة تركية تكون رأس حربة للتوسع على حساب جوارها عبر تحريك التطرف والإرهاب ووهم الخلافة الجديدة، كما أن عموم الليبيين سيواجهون الدخيل التركي بكل ما لديهم، وبما سيتوفر لهم من قوة، لتصبح البلاد ساحة مفتوحة لتصفية الحساب مع أردوغان وحلفائه والمستقوين به.
الجيش الليبي ليس فرسان القديس يوحنا، حتى يدعو السراج العثمانيين الجدد لتحرير طرابلس منه، والميليشيات لا تمثل الشعب الليبي في شيء، إنها فقط بنادق ستنقسم قريبا بين من يقف أصحابها مع الأتراك وبين من يقفون مع قواتهم المسلحة، وسينتهي السراج ومن معه إلى ما لا ينتظرون، حتى البارجة الحربية الإيطالية التي نقلته من السواحل التونسية إلى قاعدة بوستة في مارس 2015، لن تحضر لمساعدته، فالإيطاليون أنفسهم باتوا في الشق المقابل مثلهم مثل جميع من يرفضون أن تخضع ليبيا لاحتلال جديد.