رشيد الخيُّون يكتب:
عقد افتراق الأجيال
يدخل التَّاريخ اليوم العقد الثَّالث مِن القرن 21. حصلت تطورات جمة خلال العقدين الماضيين. عشنا خلالهما حوادثَ جساماً، ربَّما لم يعشها قبلنا خلال قرون. فهل يُصدق العراقي مِن جيلنا أنه شهد سقوط صدام حسين (قُتل 2006)، بعد أربعة عقود مِن الحكم الشديد، وأن تأتي أحزاب المعارضة بعد أن أخذت أعوادها بالذبول، في أراضي الخارج الجافة، وأن يكون فلانٌ رئيساً للوزراء وآخر وزيراً، وكلّ منهم قد لا يتطلع لوظيفة موظف بريد، بينما سلطان العراق الأوحد أصبح مطلوباً.
سقط نظام القذافي (قتل 2011)، ذاك الذي شغل الدّنيا بخطاباته، ونظرياته. عُزل حُسني مبارك بثورة عجيبة، وتولى «الإخوان» السلطة وبنتيجة عجيبة أيضاً، وما هو إلا عام ويسقطون، وتنتهي أسطورتهم الشعبية. مَن كان يحسب أننا سنشهد انقلاب الأفاعي على علي عبدالله صالح (قُتل 2017) التي ظل يفتخر بملاعبتها (حسب غسان شربل).
مرت الحوادث أمامنا كالرسوم المتحركة على الشَّاشة، فيلٌ يطير وبقرةٌ ترقص، مفاجآت متلاحقة. ينهد نظام وينشأ آخر، أحزاب تحولت مِن محكومةٍ بالإعدام إلى ممارسة للإعدام، وفق «قانون» الثَّأر. إنها دراما عشناها تحت الدهشة، وكأن حياتنا امتدت ألف ألف عامٍ! رأينا كيف تنقلب الموازين، ناهيك عن عقدي التسعينيات، شهد سقوط أنظمة جبارة، سقوط أسوار الطّين إذا مسها الماء.
بدأت التكنولوجيا ترهبنا، فبعد استنساخ النعجة «دوللي»، شمر الفقهاء عن فتاواهم لردع محاولات استنساخ «الإنسان»، بعد أن كذبوا الوصول إلى القمر، ومِن قَبل حرموا القول بدوران الأرض وكرويتها. صارت المجلدات العظام تصل بلمحة البصر مِن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، و«الآيفون» أصبح «مكتبَ جيبٍ»، تدار الحياة مِن خلاله، يحفظ كنوز المعلومات، جهاز يسترشد بالأقمار الاصطناعية، تجد عناوين منازل السبعة مليارات إنسان فوق الأرض كافة على شاشته!
مع كل هذا التقدم، شهد العالم صعوداً لصحوة التَّخلف، حتى منّت أحزابها نفسها بالسلطة، وحازتها في أكثر مِن بلاد. أعطت الحملة الإيمانية، بعد الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988) ثم حرب الكويت (1991)، زخماً للإسلام السِّياسي داخل العِراق، أصبح التَّدين مُشرّعَن ضمن قوانين الحملة المذكورة، حتى أن الإسلاميين أخذوا يتحركون بتوزيع الأحجبة على طالبات الجامعة علانيَّة (الدليمي، آخر المطاف). حصل ذلك والعراقيون حينها لم يعرفوا جهاز «الموبايل»، ولا «الكمبيوتر»، ولا «الصحون اللاقطة»، وكأن ذلك مِن متطلبات الصَّحوة الدِّينية التي أخذت تتنازع على تبنيها حكومات وأحزاب معارضة لها.
اشترك الإسلاميون، بأدواتهم القديمة السِّياسية والاجتماعية، في الانتخابات، كانت قوى مخيفة، كما هو الظَّاهر، قدموا أنفسهم تحت تسمية الإسلام المعتدل، وانتظروا إلى الربيع (2011) فتحولوا إلى قوى الثَّورة، لكنهم نسوا أن الزَّمن لا يستقيم مع أدواتهم، ونقل الأذان من البرلمان منافٍ للحياة المعاصرة. كأنها ردة فعل على التَّقدم التكنولوجي وما يصاحبه مِن حداثة.
دعم الوضع داخل العراق تلك الموجة، عندما تسلمت القوى المتخلفة السلطة، عن طريق الانتخابات التي استخدم فيها العامل الدِّيني إلى أبعد الحدود، حتى بعض القوائم سمت نفسها بقائمة «الحُسين»، جذباً للناس، الذين هيأتهم الحملة الإيمانية وسنوات الحصار (1990-2003) المنهكة لقبول هذا الوضع. أسست الميليشيات وغزت القوات المسلحة ودوائر الدولة، بالذين عرفوا بـ«المجاهدين»، وقبل ذلك كان الكثير منهم يُسمى بـ«التوابين»، تيمناً بالذين أعلنوا توبتهم مِن عدم نصرة الحُسين (61هـ)، واشتهر زعيمهم سليمان بن صرد الخُزاعي (قُتل 65هـ)، الذي اختلف مع المختار الثَّقفي (قُتل67 هـ)، فالأول كان تائباً نصوحاً، أما الثَّاني كان مختالاً. صار الماضي يحكم الحاضر، ففي كل فترة يخرج شخص مشوهاً ويعلن نفسه مهدياً، حتى أشيع أن طائرة عطلت فظهر المهدي في الفضاء وقام بتصليح العطل. تجدهم فكروا بمنقذ الطائرة ولم يفكروا بصناعتها، ولم يفكروا بالآيفونات التي بثوا بها الخرافة.
عدنا إلى عهد الملثمين، في القتل والاغتيال، وكأن جماعة حسن الصَّباح (ت 518 هـ) ما زالوا يتحصنون بـ«قلعة الموت»، هذا ما يدل عليه النموذج العراقي، بعد نهضة الشباب الذين وجدوا أنفسهم في حالة انفصام بين ما يستخدمونه/مِن تكنولوجيا وتخلف إدارة البلاد، تحيط بهم المنابر بروائح قتلى المعارك الغابرة، وعليهم الإقرار بواقع الحال، وللمعري (ت449هـ): «فإن قلت المحال رفعت صوتي/ وإن قلت الصَّحيح دخلت رمسي» (اللزوميات)، وكم دخل مِن النَّاس الرَّوامس اغتيالاً بسبب محاولة صنع مستقبل خالٍ مِن شوائب الماضي.
مضى العقدان مِن الألفية الثَّالثة وكأنهما دهراً دهيراً، مضيا طويلين في حوادث السياسة، وربَّما على العراق أكثر طولاً، وهو يبدأ عقداً ثالثاً (2020) والساحات قد تخضبت بالدِّماء، سالت مِن شبابٍ لم تتجاوز أعمارهم فترة العقدين المذكورين. غير أن الإصرار على مقابلة رصاص وسكاكين الملثمين، مِن قِبل شباب وشابات، كان لافتاً، بعد أن وجدوا الهوة الحضارية عميقة بين تقدمهم الفكري والثَّقافي وإدارة البلاد التي تنتمي لعصور غابرة، ويشوبها العنف واللُّصوصية.
يُعبرُ هذا الإصرار، وعبور القرون إلى ما يناسب الألفية الثَّالثة، عن أملٍ ناصع الوضوح، ذلك الذي عبر عنه ابن تمار الواسطي، وهو يترقب الأفق: قم فانتصف مِن صروف الدَّهرِ والنُّوبِ/ واجمع بكأسك شمل اللَّهو والطَّربِ/أما ترى اللَّيل قد ولّت عساكره/ مهزمةً وجيوش الصُّبح في الطَّلبِ/والبدرُ في الجانبِ الغربيِّ تحسبه/قد مدَّ جسراً على الشَّطين مِن ذهبِ (الثّعالبي، يتيمة الدَّهر).
إنه افتراق الأجيال بما هيأه العقل البشري، يصعب معه مجاراة تخلف الصحوة الدِّينية، التي أخذت اسم الصحو، وهي ليست كذلك، بل الصَّحوة هي التي هبت ضدها، وتترقب مجيء جيوش الصَّباح.