رشيد الخيُّون يكتب:
قاسم سليماني وأبومهدي المهندس.. غياب الضرورة
كان مقتل ستمئة شاب عراقي من المحتجين في التظاهرات العراقية في العام 2019، واستمرار التظاهرات بهذه الصورة المدهشة، وراء مقتل قاسم سليماني وأبومهدي المهندس، ستقولون كيف؟ أقول إن تلك التظاهرات كانت أحد أسباب تحرك قاسم سليماني بكتائب حزب الله العراق لضرب القاعدة الأميركية، ثم الهجوم الأميركي ومقتل قياديين من الكتائب، ثم ما حصل ضد السفارة الأميركية بعد اجتياح المنطقة الخضراء، وبأمر بطبيعة الحال من قاسم سليماني مباشرة، وبالفعل تمت التغطية تماما على التظاهرات خلال اليومين الفائتين.
لقد أدى قاسم سليماني دور أبي مصعب الزرقاوي داخل العراق، لكن بصورة أخرى، وهو أن الزرقاوي كان بعيدا عن الحكومة العراقية، حيث يخالفها في المذهب، وراح يستعرض علانية الرؤوس التي كان يقطعها، وبالضحايا الذين كان يبطش بهم، فشكّل أساسا لدولة داعش بالموصل، كذلك راح قاسم سليماني يتبختر داخل العراق من غربه إلى وسطه وجنوبه، ليثير اسمه ووجوده رعباً كبيرا. غير أن أول مَن كسر الخوف هم متظاهرو كربلاء عندما حرقوا صور آية الله الخميني وعلي خامنئي وسليماني، وضربوها بالأحذية، لا تتصوروا أن هذا الفعل بسيط على إيران، التي تعشش في العراق عن طريق الرعب، فالأمر كان بداية هزّ ذلك الشعور، وكان ثمن ذلك قتل المتظاهرين.
كان قاسم سليماني يفرض أسماء الوزراء ورئيسهم بالعراق، لا يُعين ويُوافق على وزير إذا لم يمرّ على سليماني.
كان بالفعل قاسم سليماني المندوب السامي على الطريقة البريطانية في الاحتلال، والوالي على العراق حسب الطريقة العثمانية والصفوية. كان سليماني في النظام الإيراني من الشخصيات المقدسة، لأنه اليد اليمنى لنائب الإمام علي خامنئي.
كان التصور العام أن إيران قوية داخل العراق بوجود سليماني، ونائبه أبومهدي المهندس، الشخصية الإرهابية التي أصبحت تأمر وتنهى، أما بعد مقتلهما فقد اهتزت تلك الصورة، وبانت إيران، ذات المخالب المتوزعة على أكثر من بلد، هزيلة، بعد أن دفعت الثمن غاليا مقابل الأحجار التي رمتها على السفارة الأميركية.
انتهت الآن تلك الأسطورة، فإيران تحتاج إلى العشرات من السنين كي تصنع شخصية مثل سليماني، والذي صاحب الثورة الإسلامية منذ قيامها، وكان أحد العسكريين الذين يراهنون على احتلال العراق، خلال الحرب العراقية الإيرانية، ويمثل مع خامنئي الفريق المعاكس لهاشمي رفسنجاني، لتتواصل الحرب حتى 1993، ليتم دخول كربلاء.
كان وراء اغتيالات لا تعدّ ولا تحصى، حتى سمّاه بعض المحللين السياسيين بأنه وزير المستعمرات الإيرانية، مستعمرات تمتد من خلال ميليشيات في كلّ من أفغانستان واليمن ولبنان والعراق وسوريا. بدأ اسم قاسم سليماني غامضا، ليست له صورة، شأنه شأن أيّ شخصية تكثف حولها الهيبة والرعب، وعندما تتحدث وكالات الأنباء عن وجود هذه الشخصية داخل العراق أو سوريا تنفي إيران والحكومات التي سارت في ركابها هذا الوجود، حتى اضطرت الحكومة العراقية إلى الكشف عن وظيفة له وهو مستشارها في شؤون الإرهاب، فتصوروا أن زعيم الإرهاب يصبح مستشاراً في الإرهاب.
تصوروا أن مسؤولين عراقيين لم يستلموا مسؤوليتهم قبل أن تُقدم كتلهم الطاعة في حضرة سليماني، وعندما يسأل رئيس برلمان عراقي سابق، وهو أٌسامة النجيفي، عن سبب زيارته المفاجئة لإيران، قال: إنه ذهب للتعازي بوفاة والدة سليماني! على أنه صديقه.
وعندما انقلب الوسط الشيعي الشعبي على إيران، راح قاسم سليماني يرتب الوضع الإيراني داخل الوسط السني العراقي، حتى ظهر رجال دين يتحدثون عن الحاج سليماني بالمنقذ، وأن رئيس البرلمان سليم الجبوري، لما حاصره وزير الدفاع خالد العبيدي بقضية فساد طار إلى طهران وأرجعه سليماني وبقرار من المحكمة العراقية إلى منصة البرلمان بريئا. دخل أيضا إلى الوسط المسيحي ليجد من يقدسه، وأخيراً أخذ الحشديون (من الحشد الشعبي) يكتبون على حائط السفارة الأميركية: “قاسم سليماني قائدي”.
كان قاسم سليماني وراء تنمّر نوري المالكي وفالح الفياض، ووراء الجملة التي أطلقها المالكي: “ما ننطيها”، أي لا نترك السلطة إلى أبد الآبدين. كان سليماني صاحب الدار، وليس الضيف في العراق، خلال دورات الانتخابات، ولم يبرح المكان أي المنطقة الخضراء حتى يطمئن على النتيجة، ومن المعلوم أن لديه منزلا ومكتبا داخل المنطقة الخضراء، منه يصدر الأمر والنّهي.
كان الخلاص من هذه الشخصية، الشبيهة بشخصية ودور الزرقاوي مع عكس الصورة مثلما قلنا، ضرورة ملحة للعراقيين، ونتيجة حتمية للغرور الذي مارسه سليماني، فوجود الميليشيات بهذا العدد وهذا الانفلات المرعب لم يكن ليتم دون وجوده، حتى صارت بغداد تحتفل بذكرى إرهابيين مثل عماد مغنية، وأنّ لا مسؤول عراقياً يرد على أيّ إهانة يصرح بها قائد إيراني ضد العراق، فلم يُرد على روحاني عندما قال: نفوذنا في العراق، ولم يجرأ أيّ مسؤول عراقي ويسأله: ما هو نفوذك ونحن دولة! ولم يُرد على من قال: بغداد عاصمة إمبراطوريتنا، وكل هذا بسبب الرعب من قاسم سليماني.
لقد حلت الضرورة في نهاية هذا الرجل المريب، الذي احتل العراق بعشرات الميليشيات، وآخر تصرفاته وضع الخطط للقضاء على التظاهرات في الوسط والجنوب، تلك التي كسرت ظهر إيران، لأنها تفاجأت قبل غيرها بتمرد شيعي ضدها.
لقد انتهى فصل حرج من تاريخ العراق، وتوفر مجال للقوى الخيرة لتتنفس الصعداء، ويغلب على الظن أن الميليشيات صارت هي المرعوبة، فلا نظن أن هادي العامري وفالح الفياض وقيس الخزعلي لم يأخذهم الخوف من مصير قائدهم سليماني وزميلهم المهندس، فللغرور جولة، إنه غياب الضرورة