طاهر علوان يكتب:
الصحافي مع جحافل الغزو
منطق الغزو والاحتلال كان وسيبقى علامة بشرية فارقة تمارسها الأقوام والحضارات والدول منذ بدء التجمعات البشرية وحتى الساعة.
وكما تحتاج الحروب والغزوات للعسكر والسلاح، فإنها تحتاج لمن يوثّقون أحداثها ومجرياتها.
الصحافيون تلك هي ساعتهم الحاسمة، أن يكونوا في قلب الحدث وعين العاصفة، أليست تلك فرصتهم التاريخية لكي يكونوا على تماس بكل ما يجهله جمهورهم.
العراقيون والعالم العربي كله تقريبا تعرّفوا على المراسل بيتر أرنيت، مراسل شبكة “أن.بي.سي” إبان حرب الخليج الثانية، المرافق اليومي لمجريات الحرب، تختلط في عقله فظائع الحرب متنقلا من لاووس وتايلند وإندونيسيا إلى جحيم فيتنام ثم وصولا إلى العراق وهناك يجد نفسه أنه المراسل التلفزيوني الأميركي الوحيد.
ما بين سايغون ودلتا نهر الميكونغ إلى بغداد ونهر دجلة هنالك صرخات جنود وقصف وقتل وأنهار دم، تلك هي الخلاصة التي تخرج بها وأنت تقرأ مذكرات هذا الصحافي اللامع وما بين ذلك كان يؤدي عمله مراسلا فيما يراوده شبح الصحافي الإيراني الأصل بازوفت الذي تم إعدامه في العراق بتهمة التجسس.
يصف بيتر أرنيت اللحظات الأولى لاندلاع الحرب وبدء القصف الوحشي لشوارع بغداد والنقاط الحيوية فيها فيما هو يراقب ذلك الجحيم من نافذة فندق الرشيد وسط بغداد.
كان أرنيت ينقل نقلا حيّا وقائع الحرب التي شاهدها ملايين من البشر من حول العالم، لكن لم يكن في حسبان ذلك الصحافي اللامع أن يتم طرده من وظيفته في شبكة “أن. بي.سي” بسبب ما قيل إن قادة الولايات المتحدة وإدارة الشبكة لم يكونوا راضين عمّا قيل إنها انتقادات وجهها أرنيت للاستراتيجية العسكرية الأميركية وذلك من خلال مقابلة مع التلفزيون العراقي.
الصحافي مطلوب منه أن يكون وفيا للغزو وفعالياته مهما كانت وحشيته أو يطرد من عمله، أتراها خلاصة يمكن الخروج بها في وسط الأزمات؟
واقعيا، هنالك تجربة لاحقة أكثر اتساعا تمثلت في حملة غزو العراق سنة 2003، وبينما كان هنالك بيتر أرنيت لوحده في حرب 1991 صار هناك المئات من الصحافيين لنقل صور الاجتياح والتدمير تحت يافطة الصدمة والرعب.
ستمئة صحافي رافقوا القوات الأميركية الغازية قبلوا العمل بشروط العسكريين بتغطية مجريات الحرب وفقا لما يناسب مصلحة الغزاة، وغالبية هؤلاء الصحافيين يعملون لأجهزة إعلامية أميركية وأطلق عليهم لقب “الصحافيين المدفونين” لأنهم يعلّقون على ما يسمح به المرافقون العسكريون من خنادق محمية ومن داخل مصفحات وعلى متن عربات نقل الجنود.
يقول الصحافي سمير عواد “لم يسبق وأن حصل صحافيون على مثل هذه الفرصة في نقل الحرب إلى بيوت المواطنين في أنحاء العالم، لكن لهذا الامتياز ثمنه الغالي: مَنْ مِنْ الصحافيين لا يتقيد بالشروط التي وضعتها وزارة الدفاع الأميركية يعرض نفسه للإبعاد فورا. هذا ما حصل لمراسل تلفزيوني أميركي حين قام برسم خريطة على الأرض كي يوضح فيها مكان وجود قوات التحالف وقال متحدث باسم القيادة العسكرية المركزية إنه ألحق خطرا بأمن القوات”.
هذه الصورة للصحافي مع جحافل الغزو تعود بنا إلى صور أخرى يلي بعضها بعضا، إبان الحقبة النازية مثلا، لم يكن المراسلون المسموح لهم بالتغطيات سوى من يمجدون النازية ولهذا ليس مستغربا أن تكون صحيفة ديلي ميل البريطانية هي المفضلة آنذاك بفضل موقف رئيس تحريرها اللورد لوثرمير الذي كان على قناعة راسخة بأن انتشار الشيوعيين والعقيدة الشيوعية هو أشد خطرا من انتشار النازية، بل إنه يعبر عن التفاؤل ببدايات صعود النازية وأنها بديل رائع عن تلك الديمقراطية الألمانية المسمومة.
المفارقة أنه بعد مدة وجيزة تكشفت حقيقة النازية ليجد مراسل الديلي ميل روثي رينولدز نفسه في وضع لا يحسد عليه فما يقوله رئيسه شيء والواقع شيء آخر.
نكتب هذه السطور وقد بدأت طلائع التدخل التركي في بلد عربي هو ليبيا تلوح في الأفق وهو شكل جديد عجيب من أشكال الغزو والاجتياح وحيث يجد صحافي الأناضول فرحة عارمة في شوارع طرابلس ترحيبا بالغزو على حد وصفه، لكن القوم لم يذوقوا بعد مرارته لأن الجحافل ما تزال تشق طريقها إلى هناك وحتى وصولها، ساعتها ستتغير قناعات كثيرة. إنه الغزو أيها السادة.