الحبيب الأسود يكتب:

تحرير سرت: ثلاث ساعات أنهت مأساة تسع سنوات

تحرير مدينة سرت الليبية أول أمس الاثنين في ضربة خاطفة لم تتجاوز ثلاث ساعات، مثّل منعطفا مهما وحاسما في الصراع العسكري داخل ليبيا.

الجيش الوطني الليبي استطاع أن يحقق نصرا إستراتيجيا مهمّا، بالسيطرة على البوابة الغربية للهلال النفطي الذي لا يزال يثير أطماع الكثيرين في الداخل وفي الخارج، والبوابة الشرقية لمساحة التحرك الحيوي لميليشيات مصراتة، والتي تمثّل كذلك منطلقا نحو بوابات الميليشيات المصراتية إلى الوسط والجنوب، وخاصة بوابة أبوقرين.

شهدت سرت منذ العام 2011 وضعا مأساويا لم تشهده مدينة ليبية أخرى (باستثناء مدينة تاورغاء التي تم تهجير سكانها بالكامل) ودفعت غاليا ثمن علاقة الزعيم الراحل معمر القذافي بها، باعتبارها مسقط رأسه والمدينة المحببة إليه، والعاصمة غير المعلنة للسياسات الخارجية خلال السنوات الأخيرة من حكمه، ولذلك تم تدمير الجانب الأكبر منها في معركة الإطاحة بالنظام، ثم نهبها وسلبها من قبل ميليشيات مصراتة، وإخضاعها لسيطرة جماعات الإخوان المسلمين وأنصار الشريعة المرتبطة بتنظيم القاعدة، قبل أن ينبثق عنها تنظيم داعش في العام 2014، ليجعل منها عاصمته في شمال أفريقيا.

ثم شهدت المدينة معركة الإطاحة بالتنظيم الإرهابي لتقع في أواخر 2016 تحت سيطرة داحريه من ميليشيات مصراتة الجهوية، قبل أن يكشف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن مخططه للتدخل في البلاد، والذي كان يضع المدينة من بين أولوياته نظرا لموقعها الإستراتيجي المهم على مشارف حقول وموانئ النفط الواقعة بالغرب منها، والتي خطط الأتراك لوضع أياديهم عليها كفاتحة لتقسيم البلاد بعزل شرقها عن بقية أرجائها، وكذلك كبوابة لوسط ليبيا وجنوبها الشاسع المليء بالثروات والمفتوح على الصحراء الأفريقية الكبرى، وكعاصمة محورية لخليج سرت الذي يمتد على مسافة 800 كيلومتر، من بنغازي شرقا إلى مصراتة شرقا بما يمثله من أهمية قصوى لدى الضفة الجنوبية للبحر المتوسط.

المجال أضحى مفتوحا أمام الليبيين لتجميع صفوفهم في أكثر من 90 بالمئة من المساحة الجملية لبلادهم، وللتقدم مع جيشهم الوطني لتحقيق الانتصار

ولا شك أن تحرير مدينة سرت كان تأكيدا على أحد ثوابت الجيش الوطني وهو الوحدة الوطنية.

فالمدينة تاريخيا شهدت أهم معركة ضد الاحتلال الإيطالي وهي معركة القرضابية التي شاركت فيها كل القبائل الليبية تقريبا وحققت نصرا كبيرا في أبريل 1914.

كما أنها تمثل رمزية مهمة لأنصار النظام السابق، باعتبارها شهدت مقتل معمر القذافي ومرافقيه، وهي مدينة تضم سكانا منحدرين من أغلب المناطق، وخاصة قبائلها البدوية التي انتفضت في وجه الميليشيات لدعم الجيش الوطني الذي كانت قواته المتقدمة تتكون أساسا من ضباط ومقاتلين من المدينة نفسها، حتى أن بعض المشاهد كانت جدّ مؤثرة منها وجود الأب وابنه، والأخ وأخيه في معركة لم يسقط فيها قتيل واحد، وكذلك عودة عسكريين إلى ديارهم لأول مرة بعد تسع سنوات ليحتضنوا أقاربهم وأهاليهم بكل ما للشوق من حرارة، وللقاء من معنى بعد فراق طويل.

كما أن تحرير سرت وتقدم الجيش نحو بوابة أبوقرين يعني أيضا تحرير بني وليد، المدينة بالغة التأثير إستراتيجيا واجتماعيا، من تهديدات ميليشيات مصراتة التي سبق لها أن هاجمتها بشكل متوحش في أكتوبر عام 2012 بعد القرار رقم 7 سيء الصيت الصادر عن المؤتمر الوطني العام الإخواني، وسيقطع الطريق أمام الميليشيات نحو الجفرة في وسط البلاد.

أما السيطرة على بوابة السدادة فإنها تعني فصل مصراتة عن مجاليها الشرقي والجنوبي وفتح الطريق الساحلي نحوها، مرورا بالكراريم وتاورغاء، وهو ما جعل سلطاتها المحلية تعلن حالة الطوارئ وتغلق مؤسساتها التعليمية وتدعو شبابها للالتحاق بالجماعات المسلحة، وأيّ تقدم لاحق للجيش يعني أنها ستسحب ميليشياتها من جبهات طرابلس للعودة إليها قصد تأمينها، هذا على الرغم من أن مؤشرات عديدة تؤكد أن لا وجود لمخطط للقيادة العامة للجيش الوطني بالهجوم عليها، لأن الهدف، بالأساس، يتمثل في قطع الطريق أمام بلطجيّتها خارج مناطقها لا أكثر. هناك تأثير معنوي جيد لتحرير مدينة سرت على عموم الليبيين الحالمين بتأمين البلاد وفرض سيادة الدولة وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، والتصدي لأيّ عدوان خارجي، وخاصة التدخل التركي السافر الذي أعلن دخول مرحلة التنفيذ على الأرض.

وهذا التأثير المعنوي سيحسم معركة التحرير والتطهير لكامل البلاد، بعد حصر ميليشيات المرتزقة والإرهابيين في محيط ضيق ينحصر حاليا في مراكز المدن بمنطقة الساحل الغربي.

تحرير سرت وتقدم الجيش نحو بوابة أبوقرين يعني أيضا تحرير بني وليد، المدينة بالغة التأثير إستراتيجيا واجتماعيا، من تهديدات ميليشيات مصراتة التي سبق لها أن هاجمتها بشكل متوحش في أكتوبر عام 2012

فالمجال أضحى مفتوحا أمام الليبيين لتجميع صفوفهم في أكثر من 90 بالمئة من المساحة الجملية لبلادهم، وللتقدم مع جيشهم الوطني لتحقيق الانتصار، وسيكون عليهم أن يتحركوا باتجاه أقصى الغرب لتأمين الحدود مع تونس، بما سيساعد على الفصل في معركة تحرير العاصمة في أجل قصير.

أما التدخل التركي فلن يكون له تأثير كبير خاصة بعد أن تبين أنه يعتمد بالأساس على المرتزقة، وبعد أن أصبح محل تنديد واستنكار العالم، وهدفا لمختلف مكونات الشعب في الداخل.

جاء تحرير سرت ليؤكد أن للجيش الليبي حاضنة شعبية لا تكتفي بالترحيب به، وإنما تندفع للقتال إلى جانبه، وهذا في حد ذاته مؤشر بالغ على ذكاء الليبيين وفطنتهم ووعيهم بطبيعة التحدي الذي فرض عليهم منذ تسع سنوات، عندما أريد لهم أن يكونوا تحت حكم ميليشيات الإرهاب والمرتزقة وإخوان الشيطان وناهبي المال العالم، وهي، أيضا، رسالة على العالم أن يقرأها جيدا، حيث أكدت أن الشعب مع جيشه، وما عدا ذلك فهو كذب وبهتان وتزوير للحقائق، حتى إن تعلق الأمر بشرعية مهترئة لحكومة غير موفقة تم فرضها على الليبيين من قبل مجتمع دولي فشل في قراءة الوقائع.

ضربة خاطفة مدتها ثلاث ساعات أنهت مأساة عمرها تسع سنوات، وأطاحت بمشروع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحلفائه، وفتحت المجال أمام واقع جديد سيتبين خلال الأيام القادمة.