رشيد الخيُّون يكتب:

بَيْتُ القَصْبِ بأبوظبي

لم نعرف أصل عِمارة بَيْتِ القَصْبِ، حتى جاءت بعثات التَّنقيب الأوروبية عن الآثار، فاكتشفنا أن طراز هذا البَيْتِ يعود إلى السّومريين. ظلت هذه العِمارة محصورة ببيئتها الأهوار، ربَّما بعد شح الماء وبالتالي قلة القصب اتجه النّاس إلى الطّين المشوي أو الجاف لبناء بيوتهم. لا يُحسن عمارته غير أهل المنطقة. لجمال هذه العِمارة أخذت تشيد نماذج منها في المنتزهات ببغداد، ولا أعلم ماذا بقي منها، فعهدي بها زاد على الأربعين عاما.

كان التّعاون قائما في تشييد بيت القصب، مِن تحضير القصب إلى البناء، ولا يعرف البنائون الأجرة، مهما عظم البيت، ما عدا خلال العمل يُقدم التمن و”الروبة” لا أكثر. أما مضيف الشّيوخ الكبير “آل خيون”، فكان تجديده يجري على مراحل، وكل مرحلة يتحملها فخذ مِن القبيلة، والعمل فيه مناسبة تشبه العرس.


ما لم أكن أتوقعه، أن أجد نموذج بيت القصب قائما في حديقة دار مِن دور أبوظبي، فبعد أن علم الصَّديق وزير التَّسامح الشَّيخ نهيان بن مبارك آل نهيان بأنني مِن الأهوار، جنوب العِراق، أخبرني عن هذا البيت في داره، وظننت أنه كوخ صغير من القصب، فالبيئة ليست بيئته.

لكنني وقفتُ أمامه مندهشا، إنه مضيف كامل، فيه (سبعة شبات) أعمدة ضخمة من القصب، وواجهتان من باريات القصب، والهرادي (أعمدة أُفقية) التي تحملها، ومحاط بشبابيك مِن القصب، ليس فيه زيادة أو نقصان. أخذت أدقق في التفاصيل، وحبكة البناء فهو مضيفنا نفسه إلا أنه أصغر حجما، فحجم هذه البيوت يُقاس بعدد (الشَّبات) التي تُشكل الهيكل، أول ما تُقام، وتُعكف على شكل أقواس.

لكنّ مَن شيد هذا المضيف؟ يسمى مضيفا عندما يخصص للخطار، وللسكن يسمى بيتا وصريفة، ولكلّ مِنها طراز. قال لي الشَّيخ نهيان: أتينا ببنائين مِن العِراق، منطقة الأهوار، مع القصب! لم يتذكر الأسماء، فقد مرّت سنوات، والمضيف مازال جديدا.

جلست أقلب ناظري في داخله، فنحن غريبان ها هنا، وإن كان قاصد صاحب الدَّار لا يتغرب. وقفت متذكرا كيف تتحول (الشَّبات) إلى مساندَ للجالسين، مرت في خاطري صورة أبي وأعمامي، وهم جلوسا مِن الصَّباح الباكر، حين يُضرب الهاون لطحن القهوة ومناداة الشاربين. كان النُّوم في بيوت القصب أَمنَ مِن قصور موصدة، مع أنها بلا أبواب. لا يمنع أصوات قوارب القاصدين إلى عمق الهور فجرا. كان عالما ساحرا، لا تهدأ سمفونية الضَّفادع خارجه، القائل فيهنَّ الجواهري “سَلام على جاعلات النَّقيق/على الشَّاطئين بريد الهوى”!