مصطفى النعمان يكتب:
ما الحل للمعضلة اليمنية؟
بداية فإن تعليق الشماعة المريحة، بأن كل السوء الحاصل مرتبط بالرئيس الراحل علي عبدالله صالح، فيه اتهام صريح لأغلب من يحكمون اليوم لأنهم كانوا أعمدة حكمه والمدافعين عنه أمام خصومه الذين هم حلفاء اليوم، وبنظرة سريعة إلى الحاضرين على المسرح اليوم سنجد أن المتهمين بالفساد المالي والسياسي في عهده مازالوا متحكمين في العملية السياسية اليوم ويديرونها بنفس الأسلوب السابق.
أسئلة للمدافعين عن "الرئيس" وخاصة الذين يعملون معه براتب شهري أو تبرعا:
- كم مرة ترأس عبدربه منصور هادي اجتماعات مجلس الوزراء، بعد الحرب؟
- كم مرة انعقد مجلس الدفاع الوطني برئاسته، بعد الحرب؟
- كم مرة في الشهر اجتمع الرئيس مع مستشاريه بعد الحرب؟
- كم عدد الزيارات الخارجية التي قام بها بعد الحرب لشرح الأوضاع وبحث سبل التوصل إلى حلول؟
- كم كان عدد زياراته إلى جبهات القتال ولقاءاته مع القوات المرابطة هناك، أثناء الحرب؟
- ما هو الدور الذي يقوم به أبناؤه في إطار المؤسسات؟ ولماذا يلتقون بمسؤولين غير يمنيين؟ وما هي صلاحياتهم غير المعلنة؟
مفهوم أن الأحداث الجارية الآن في البلد والكارثة المدمرة التي نعيشها نحن اليمنيون، كانت أسبابها كامنة في النظام السابق الذي لم يتمكن من الانتباه إلى خطورة الأوضاع وإلى ضرورة تلافي الأخطاء الكبرى التي ارتكبها طيلة أكثر من ثلث قرن. وحين انفجر غضب الشارع كانت المؤسسات التي استند عليها النظام قد تآكلت بفعل الفساد، ولم تعد تمتلك القدرة على تجديد أساليب عملها، وهو أمر طبيعي من حاكم اعتقد أنه تمكن، بمفرده، طيلة تلك الفترة من مواجهة العواصف التي واجهته حتى آخر أيام حياته السياسية.
لكن ما ليس مفهوما هو كيف أن خروج صالح عن الحكم لم يستغله الرئيس هادي ليضع بصمته الجديدة، وكيف لم يتمكن من الخروج من عباءة صالح وأساليبه في الحكم، رغم أنه كان يمتلك من القوة المعنوية والمالية والدعم الإقليمي والدولي ما يكفيه للظهور كمنقذ للبلد من حالة الانهيار الكامل.
حين عزل الحوثيون صعدة عن الدولة، ثم توجهوا جنوبا نحو عمران فصنعاء، لم يقاوم هادي ولا حكومته ولا الأحزاب. وحين اعتقله الحوثيون بعد تقديم استقالته ورئيس حكومته وعدد من الوزراء لم يقاوم هادي ولا حكومته ولا الأحزاب. وقبل هروب هادي من أسره إلى عدن كانت الأحزاب السياسية مجتمعة في الموفينبيك بإشراف المبعوث الأممي جمال بنعمر للبحث في مخارج للأزمة ومن بينها تشكيل مجلس حكم/ رئاسة مؤقت حتى تجرى انتخابات. وبعد وصوله إلى عدن تبدل الموقف السياسي وبدأ هروب القيادات الحزبية من صنعاء، ثم هروبه هو نفسه مرة أخرى إلى الرياض عبر صلالة وحينها كانت الحرب، التي صرح أنه لم يكن يعلم بأنها بدأت، قد اندلعت بين الحوثيين وقوات الجيش اليمني.
خمس سنوات والأبرياء، أطفالا ومسنين، نساء ورجالا، في المدينة والريف، في الداخل وفي الخارج. يدفعون أثمانا باهظة من حاضرهم ومستقبلهم ولا يلوح في الأفق ما يشي برغبة أطراف الحرب في إنهائها إلا بتحقيق النصر الحاسم وإن كان الجميع يصرخ بأن الحل الوحيد سيكون سياسيا، فما الذي يعرقل، ومن الذي يعرقل؟
لم يعد خافيا أن الكثير من المنخرطين في هذه الحرب قد قرروا مجبرين الاستقرار في الخارج مع أسرهم، وهو أمر غير مستغرب لأن أي حل سياسي لن يمنحهم الطمأنينة ولن يقدم لهم أحد الضمانات الكافية لتـأمينهم داخل البلاد، خصوصا أن "الشرعية" القائمة أعجز من منحهم الأمان الكافي حتى في المناطق التي تدعي أنها تحت سيطرتها. وفي نفس الوقت فإن المتحكمين في الداخل يرسخون مواقعهم دون منافس ولا يعنيهم أمر من في الخارج وغير مهتمين بطرح أي مشروع جدي للمصالحة مع الراغبين بالعودة بعد أن انقطعت بهم السبل.
هذه حقيقة لا أتصور أن أحدا سيجادل فيها.
الحقيقة الثانية هي أن الحرب قد أنتجت مجتمعات اقتصادية متضخمة من دون رقابة ولا محاسبة، كما فتتت سلطة الدولة المركزية لعقود قادمة وأصبح كل محافظ في المناطق التي تسميها "الشرعية" بالمحررة يتصرف كحاكم مستقل في نطاقه الجغرافي. ومن المتعارف عليه أن المنتفعين من استمرار الحرب هم الذين يُغذون الصراعات ويضعون العراقيل تحت مبررات مختلفة ويشكلون لهم دوائر نفوذ أقوى من سطوة الدولة.
في البدء والمنتهى فإن الحل في اليمن مقرون برغبة شخصين فقط؛ الرئيس هادي وزعيم جماعة "أنصار الله" عبدالملك الحوثي. لا مؤسسات ولا أحزاب ولا شخصيات ولا ائتلافات. فهذه الكيانات قد تكون عاملا مساعدا في اتجاه تأييد القرار، لكنها حتما ليست مؤثرة في مساره ولا توجهاته رغم صراخها المستدام.. أما من جانب "أنصار الله" فواضح أنه قرار فردي من شخص واحد كما هو الحال في الجماعات التي تقوم على مبدأ الطاعة المطلقة.
هادي والحوثي يفكران بطريقتين مختلفتين.
الأول اقتنع مكرها بالعيش في الخارج مع أسرته ولا يمكن تصور أنه يضع في ذهنه العودة النهائية إلى عدن لأسباب كثيرة، أولها حالته الصحية التي لن تسمح له بالبقاء تحت الضغط طويلا في محيط من الضجر والمطالبات بالخدمات والأمن والعمل والمرتبات، وهي قضايا يدرك تماما أنها غير قابلة للتحقيق رغم ما سيسمعه من وعود المانحين والممولين. كما أن قراره لم يعد وطنيا خالصا بل دخلت عليه بسبب الحرب مؤثرات إقليمية مرتبطة بالتحالف العربي وخصوصا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات اللتان يهمهما مستقبل اليمن وصيرورته وكيف ستكون سياساته، ولهما بطبيعة الأشياء خططهما الخاصة في اليمن والتي يجب أن تكون متوافقة مع المصالح اليمنية ومتفق عليها.
الثاني (الحوثي) يعيش حالة يختلط فيها السياسي بالديني المتشدد، والعام بالخاص، وله أيضا تحالفاته الخارجية التي يضع لها حسابات محصورة بمصلحة جماعته أكثر من مصلحة البلاد، وقد يختلف موقفه عن هادي بأنه أقدر على ضبط كل من يعمل معه وإنفاذ قراراته ومرئياته، ويستطيع إعادة توجيه المسار حين يقتنع.
المعضلة اليمنية لها أوجه حل متعددة. الوجه الأول أن يبقى الحال على ما هو عليه، حيث تسيطر الشرعية على أجزاء من البلاد ويظل “أنصار الله” (الحوثيون) متحكمين في الجزء المتبقي. غير أن المشكلة في هذا الحل أنه يضع حياة الناس المعيشية ضحية صراع حول السلطة لا حول اليمن، ويفاقم من المأساة الإنسانية التي تعصف بحياة الملايين.
وفي مناطق الشرعية هناك قوى كثيرة تتنازع السلطة داخلها، ما يعقّد عملية التوصل إلى موقف موحّد بإمكانه بلورة رؤية جامعة للحل. فيما يعاني الحوثيون من الانقسامات والارتهان لقرارات إيران. وعليه فإن الطرفين مسؤولان كليا عن هذا الحال، ولا يمكن تصديق أيّ مبررات يقدمها هذا الطرف أو ذاك.
الوجه الثاني هو أن الرئيس عبدربه منصور هادي وعبدالملك الحوثي هما السبب الحقيقي لهذه الحرب وأن ما يجري هو صراع من أجل السلطة لا من أجل اليمن، لذلك لا أتوقع أن أحدهما سيمد يده دون شروط للآخر من أجل اليمن، كما أنهما لم يعودا في وضع يؤهلهما لخوض صراع سياسي تحسمه الجماهير لأن ليس لهادي أيّ قاعدة شعبية تقف معه بينما الحوثي نفوذه محصور بالقوة المسلحة داخل جزء من طائفته وفي المساحة المذهبية – الجغرافية التي يتحكم بها.
الوجه الثالث يكمن في أن الحرب الدائرة قد أفرزت خطابا إعلاميا ركز مفرداته علـى غرس هويات متعددة داخل المجتمع منها المذهبي والمناطقي والطائفي، ولم يعد يجمع أغلب اليمنيين إلا حالة الجوع والعوز والمرض، وهي حالة سيكون من غير الهين تجاوزها سريعا، وأن استمرار الحرب يعمقها ويزيد من جراحها النازفة.
الوجه الرابع هو أن التدخلات الخارجية قد أنتجت هي الأخرى مصالح من المنطقي أن يحاول كل من يديرها الاستفادة من نتائج الحرب التي خاضها وما يزال، وجعلت من “يمنية القرار” مسألة غاية في الصعوبة دون موافقة الشركاء الخارجيين.
الوجه الخامس، هو أن فترة الحرب الطويلة أنتجت جماعات مسلحة في كل مناطق الشرعية بالذات، ورغم أن كلها يعلن أن هدفه متوافق مع مشروع “استعادة الدولة” إلا أن نشأة عدد منها مثل ما يسمى “حراس الجمهورية” (التي يرأسها طارق صالح) تم تكوينها دون قبول وعلم “الشرعية”، ولا يقع ضمن إطار مؤسسات الدولة كما المجلس الانتقالي الجنوبي الذي استولى علـى مساحة من الأرض وبسط نفوذه عليها، وارتبط وجوده بمقتل الرئيس علي عبدالله صالح مما يعطي انطباعا قويا بـأن غرضه هو الانتقام من شريك سابق، وليس للضغط كي نصل إلى وقف للحرب بشروط سياسية.
كما أن الانتقالي الجنوبي لا يعترف بشرعية عبدربه منصور هادي، حيث هناك أيضا تجمعات مناطقية مثل المقاومة التهامية ومقاومة تعز ومقاومة إب ومقاومة البيضاء وكل هذه المجاميع لا يعلم أحد من المحرك الحقيقي لها وما هو هدفها النهائي والحقيقي بغض النظر عن البيانات التي تصدرها لتبرير ولادتها.
الفكرة، أن غالبية المواطنين غير مقتنعين بأيّ من السلطتين ولا بالبدائل الموجودة على الساحة، والكل يبحث عن تكتل يمكن أن يتخذ مسارا مختلفا يكون هدفه هو السعي أولا لوقف الحرب وتشكيل ضغط على كل الأطراف. وهو أمر قد يبدو مثاليا في ظل الاستقطاب السائد والمستمر والتمويل المستدام، وفي ظل عمل إعلامي يركز على المزيد من الشقاق والدعوة إلى ديمومة الحرب.
ليس الأمر سهلا ولكنه غير مستحيل ويحتاج إلى لقاءات وبحث عاجلين بين من يقتنعون بالفكرة، فلا يجب أن يكون البحث حاليا عن موقع في أيّ من السلطتين وإنما دفعهما نحو وقف الحرب وعودة النازحين واستعادة عمل المؤسسات كي تعود الحياة الطبيعية تدريجيا.
وبالنتيجة، لم يعد أمام اليمنيين فرص أكثر مما مرّ.