مصطفى النعمان يكتب:
مصاعب في وجه الهدنة
التقيت خلال الأيام الماضية عدداً من المسؤولين اليمنيين والدبلوماسيين الغربيين الموجودين في الرياض وبطبيعة الحال كانت القضية الرئيسة في كل نقاش هي "هل تستمر الهدنة حتى من دون إعلان؟".
وكان الكثيرون مقتنعين بأن الهُدن السابقة أدت إلى تهدئة معقولة بعد سنوات من الهلع المستمر ليل نهار لكنها في الوقت نفسه، لم تؤد الغرض السياسي منها، إذ لم تنجح في كسر جمود المسار نحو المشاورات التي تمثل الهدف الأساسي من الهدنة ومن كل المساعي الإقليمية والدولية.
كان الأمل المتحفظ حتى اللحظات الأخيرة من انتهاء الهدنة الأخيرة في 2 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، أن يكرر الحوثيون قبولهم الالتزام ببنودها والتي كانت، رغم اعتراضاتهم سابقاً على بعضها، ستمهد الطريق أمام فرصة جديدة للذهاب إلى تهدئة مستدامة توقف الحرب التي دمرت ضمن ما دمرت النسيج الاجتماعي، وأنهكت المواطنين، ودفعت الكثيرين منهم إلى هاوية سحيقة من الفقر والعوز والمرض، وأثارت أحقاداً، وصنعت كراهية بين الناس.
ركز الاعتراض الذي أعلنه الحوثيون على مسألة المرتبات في عموم البلاد بموجب كشوفات الخدمة المدنية لعام 2014، لكنه لم يتوقف عند هذه النقطة، إذ أضاف إلى ذلك المطالبة بصرف مرتبات القوى المسلحة في المناطق التي يسيطرون عليها.
ومن المنطقي أن ترفض الحكومة المعترف بها دولياً هذا الأمر، إذ ليس من المعقول القبول بالإنفاق على قوات تحاربها، مع أن هذه القضية ستكون بطبيعة الحال موضع مفاوضات بعد وقف الحرب، والتوصل إلى اتفاق سلام دائم يتم بعده معالجتها والاسترشاد بما جرى في مناطق صراع، مرت بنفس تجربة الحرب الأهلية في اليمن.
الواقع، أن مسألة المرتبات لجميع المسجلين في ملفات الخدمة المدنية وكذا المتقاعدين، تحولت من قضية حقوقية بحتة، فأخذت منحى إنسانياً بامتياز لأنها حرمت كل الموظفين المقيمين خارج مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً من حقوقهم من دون مبرر، سوى أنهم لم يلتحقوا بها، فكان العقاب غير الأخلاقي وغير القانوني، هو حرمانهم من مرتباتهم منذ عام 2016 بقرار سياسي متعجل وغير إنساني.
ويفهم الجميع أن الحكومة التي ترفض تسليم مرتبات الموظفين الرسميين ومستحقات المتقاعدين، تفقد جزءاً كبيراً من شرعيتها وقبولها عند الناس.
وتقول الحكومة إن الحوثيين يستولون على الإيرادات التي يتحصّلونها في مناطق سيطرتهم، بالتالي فإنها ترى أنهم مسؤولون حكماً بدفع مرتبات العاملين في المؤسسات الحكومية، متجاهلة أن ذلك يصبح اعترافاً منها بتخليها عنهم، واعترافاً ضمنياً بسلطة الحوثيين، ودعوة مفتوحة منها لمطالبتهم بالنزوح إلى مناطقها، وفي كل الأحوال، فهي ترتكب خطأ سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً.
إن قضية المرتبات شديدة الحساسية بسبب تعقيداتها وتأثيراتها الحالية والمستقبلية، فهي إلى جانب الحاجة إلى موارد مالية ضخمة لمعالجتها، تستدعي مرونةً وتعاملاً عقلانياً بعيداً من تصور أن القوة فقط هي العلاج لفرض الشروط التي تتناسب مع إرادة هذا الطرف أو ذاك.
وسيصبح الأمر قنبلة تنفجر في وجه الجميع لتبعاتها المالية والاجتماعية، ولن يكون كافياً الاتفاق على أن 2014 هو عام الأساس لصرف المرتبات، إذ إن هذا سيعني إسقاط كل التعيينات التي تمت خارج الأطر القانونية بعد ذلك العام.
سأضرب أمثلة عن العبث الذي جرى والذي ستكون تبعاته صعبة الحل، سواء تم الاتفاق على كشوفات عام 2014 أو غيرها.
وزارة الخارجية هي النموذج الفاضح لسوء الإدارة منذ 2015، إذ جرى العبث بقوامها وطريقة التعيين فيها، وأصبحت دار رعاية اجتماعية ومجاملات سياسية وتوظيفاً غير قانوني.
وجرى كل ذلك تحت ستار "التوجيهات العليا"، فازدحمت السفارات بأبناء وأقارب ذوي النفوذ، وجرت ترقيات عشوائية نسفت كل اللوائح، واستولت أعداد كبيرة على مواقع كثيرة من دون استحقاق قانوني، ومن دون تأهيل على حساب الكادر الأصلي للوزارة، الذين فقد أغلبيتهم حقهم الأصيل في التعيينات، وجرى استبدالهم بكادر أبعد ما يكون عن قدرة تمثيل بلادهم.
والأكثر مدعاة للقلق هو تضخم الملحقيات التي لا تؤدي أي مهمة سوى أن صارت مصدر إعاشة للعاملين فيها.
كما جرى التمديد غير القانوني لسنوات طويلة لكل السفراء وأغلب الدبلوماسيين، وطال بقاؤهم في الخارج لسنوات طويلة خارج القواعد المعروفة.
ما حدث في وزارة الخارجية جرى مثله بصورة فجة وخطرة في مؤسستي الجيش والأمن عند الطرفين، إذ تم تجاوز كل قواعد العمل المعروفة وانتهاك التراتبية في هياكلها، وصارت الرتب العليا تُمنح بعشوائية متجاوزة اللوائح وسنوات الخبرة المطلوبة لنيلها.
والأخطر أنه لم يعد معروفاً بالدقة أعداد منتسبي هذه المؤسسات، ولا كيف سيتم التعامل معها عند التوصل إلى اتفاقات سياسية تنهي الحرب، ومارس الكل العبث داخلها وتسبب ذلك في انتشار الإحباط عند المحترفين والمؤهلين والمستحقين.
ما يجب التذكير به أن العديد من التكوينات المسلحة خارج القانون لم تكن موجودة في العام 2014، وصار من الصعب تجاوزها في أي تسوية قادمة، في الوقت الذي يبحث فيه مجلس القيادة الرئاسي إدماج العديد منها في قوام القوات النظامية.
ومن العسير فهم كيف يمكن إنجاز هذه المهمة بنجاح، لأن العقيدة العسكرية والفكرية لكل من هذه القوى مختلفة حد التناقض، فبينما يعلن البعض منها أن الانفصال واستعادة الدولة هدفان يسعى إليهما، فإن أخرى ترفع رايات تثبيت الوحدة اليمنية، ناهيك عن تشكيلات تم تأسيسها على أسس مذهبية مخترقة الروح الوطنية والنظم العسكرية.
لقد صارت مواصلة العبث بالوظيفة العامة والتعيينات التي لا تمر عبر القواعد المنظمة المعروفة، منهاجاً للعمل خلال السنوات الماضية، وأضحت التجاوزات هي القاعدة لا الاستثناء.
ومن السذاجة تصوّر أن عام 2014 سيظل صالحاً كمحدد لصرف المرتبات، لأن تجاهل من تم ضمهم إلى الخدمة بعد ذلك التاريخ، سيشكل أزمة اجتماعية.
ولعله من المناسب التفكير في كيفية التصرف مع هذا الوضع، وعلى "المجلس" التوجيه بوقف التعيينات كافة، والبدء في تنقية سجلات الخدمة المدنية وضبطها قانونياً، ومعالجة أوضاع من جرى ضمهم إلى الخدمة العامة من دون حق.
وأخيراً، جرى تداول معلومات حول إحلال وظيفي بصورة مناطقية بتجاوز الإجراءات القانونية، وهو عبث يجب فضحه والتصدي له.
أخيراً، يظل فتح كل الطرقات والموانئ كافة، والسماح برحلات جوية تجارية من صنعاء إلى وجهات متفق عليها، من الأمور الأخلاقية والإنسانية التي يجب أن تتم بعيداً من المزيدات، لأن استمرارها يمثل عقاباً جماعياً للمواطنين من دون ذنب اقترفوه.