الدكتور مفيد شهاب يكتب:

ميثاق الأمم المتحدة.. الاختصاصات الداخلية لشؤون الدول (2-2)

تتباين الآراء حول تحديد الشؤون التي تعتبر من الاختصاص الداخلي للدول، ولذا تثور خلافات شديدة بين المنظمات والدول الأعضاء فيها، أو بين الدول الأعضاء نفسها، حول ما يمكن اعتباره من المسائل الداخلية، وبصفة خاصة بالنسبة للموضوعات المتعلقة بحقوق الإنسان والحروب الأهلية.

ومن المتعذر، في الواقع، حصر المسائل التي تدخل في نطاق هذا الاختصاص، بل إن الأمر يختلف حتى بالنسبة للمسألة الواحدة، وفق ما ترتبه من آثار دولية في كل حالة معينة، بمعنى أن هناك مسائل يمكن أن تندرج، في ظروف سياسية معينة، تحت بند الاختصاص الداخلي، في حين أنه لا يجوز اعتبارها كذلك في ظروف سياسية مختلفة .

هذا فضلًا عن اختلاف المواقف التي تتخذها الدول في المسائل ذات الطبيعة الواحدة، وفقًا لمقتضيات مصالحها في كل حالة، ما جعل فكرة الاختصاص الداخلي التي يجب أن تكون فكرة قانونية تصبح فكرة سياسية تتوقف بالدرجة الأولى على الاتجاهات السياسية لأغلبية الدول الأعضاء داخل الأمم المتحدة .

 

ومع ذلك، فهناك مسائل تجمع الآراء على اعتبارها داخلية، لا تخضع إلا للاختصاص الوطني للدول، مثل المسائل الخاصة بالنظام الدستوري الداخلي، والخدمة العسكرية، وإقامة العلاقات الدبلوماسية، وكذا المسائل المتعلقة بمنح الجنسية، ومعاملة الأجانب، وقيود الهجرة، إلا إذا تناولتها معاهدات دولية بالتنظيم، فتصبح في هذا الحالة ذات صفة دولية .

 

وقد حاول بعض فقهاء القانون العام حصر المسائل التي تدخل في نطاق الاختصاص الداخلي، على ضوء ما جرى عليه العمل في العلاقات الدولية وأحكام القانون الدولي، كما قام مجمع القانون الدولي ببحث هذا الموضوع في عدة دورات، وبصفة خاصة دورة أوسلو عام 1932 ودورة (Aix – en – Provence) عام 1954.

وقد أعلن المجمع في هذه الدورة الأخيرة أنه يجب التسليم بفكرة الاختصاص الداخلي، أي وجود أنشطة لا تتقيد سلطات الدولة تجاهها بأحكام القانون الدولي، ويتعذر تحديد هذه الأنشطة نظرًا لعدم وجود معيار واضح لها.

وأضاف أن هذه الفكرة متطورة بطبيعتها مع تطور العلاقات الدولية، وأن الاتفاقيات الدولية عامل حاسم في تحديد نطاقها، وأن تطور القانون الدولي الاتفاقي لابد وأن يؤدي إلى إنقاص عدد المسائل التي تعتبر داخلية، وقد أكدت المادة 3 من قرار المجمع الصادر في 29 أبريل 1954 أن إبرام اتفاقية دولية في مسألة متعلقة بالاختصاص الداخلي يخرجها من هذا الإطار، ويحرم على أطراف الاتفاقية الدفع بهذا الاختصاص في أي موضوع متعلق بتطبيق أو تفسير هذه الاتفاقية.

وتجدر الإشارة إلى أن العمل قد جرى في الأمم المتحدة، على أن قيد الاختصاص الداخلي لا يحول دون مناقشة الموضوعات المتعلقة بهذا الاختصاص، أو حتى إجراء تحقيق بشأنها، وإنما يحول فقط دون إصدار توصيات أو قرارات متعلقة بها .

 

أما فيما يتعلق بالجهة التي تفصل في طبيعة المسألة المعروضة: فكانت بعض الوفود قد اقترحت خلال مؤتمر سان فرانسيسكو أن يكون ذلك من اختصاص محكمة العدل الدولية، واقترحت وفود أخرى أن يتم ذلك بواسطة مجلس الأمن على غرار ما كان عليه الوضع في عصبة الأمم.

 

ومع ذلك فقد جاء النص دون تحديد جهة معينة للقيام بهذه المهمة، ما يترتب عليه أن يكون لكل فرع من فروع الهيئة، وهو بصدد مباشرة وظائفه، أن يفصل في هذا الموضوع، هذا وكانت المادة 4 من قرار مجمع القانون الدولي عام 1954 تعتبر أن موضوع الفصل فيما إذا كانت مسألة تعد  أو لا تعد  من قبيل الاختصاص الداخلي، يجب أن تحسم بواسطة جهاز قضائي دولي .

الاستثناءات الواردة على المبدأ:

لما كان مبدأ عدم التدخل على النحو الذي جاء في ميثاق الأمم المتحدة يحمل بين طياته طابعًا سياسيًّا، فإن تطبيقه تعتريه عدة صعوبات، لأن تحديد شرعية أو عدم شرعية التدخل تتوقف على الإرادة السياسية للدولة. فحين يتم التدخل بناء على رضا الحكومة وبعد موافقتها بشكل صريح، في هذه الحالة يكون التدخل عملًا مشروعًا، أما حينما يتم التدخل ضد الإرادة السياسية للدول، فيكون آنذاك عملًا عدوانيًّا غير مشروع؛ لأنه يهدف إلى الضغط على الحكومة كوسيلة إكراه وقهر تتنافى مع مبدأ المساواة في السيادة.

 

وفي هذا الصدد أورد الفقه عدة استثناءات على المبدأ تجيز للدولة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، يمكن إيجازها في التدخل لحفظ الأمن الجماعي للدول، والتدخل بناء على طلب الحكومة، والتدخل للدفاع عن الإنسانية:

  

1_ التدخل لحفظ الأمن الجماعي:

 

نص الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة على تدابير الأمن الجماعي التي تقوم بها الأمم المتحدة، التي قد تتضمن تدابير عسكرية تشكل وحدها إلى جانب الدفاع الشرعي استثناءً قانونيًّا ومشروعًا لمبدأ عدم التدخل مادامت الغاية منهما هي حفظ السلم والامن الدوليين. وهنا يجب ملاحظة أن قيد عدم التدخل في الشؤون الداخلية – أيا كان مدى تفسيره – لا إعمال له على حد ما جاء في العبارة الأخيرة من المادة 2/7، في حالة تدابير القمع التي يتخذها مجلس الأمن عند تهديد السلم أو الإخلال به، وفقًا للفصل السابع من الميثاق.

وبمعنى آخر فإذا كان الأصل هو ألا تتدخل فروع الأمم المتحدة في حالة نشوب حرب أهلية في إحدى الدول، باعتبار أن تلك مسألة داخلية، فإن من واجب مجلس الأمن إذا تعدت آثار هذه الحرب حدود الدولة لتهدد السلم والأمن الدوليين، أن يصدر من التوصيات والقرارات كل ما يراه ضروريًّا من أجل إعادة السلم، دون تدخل في النواحي الداخلية لهذه الحرب والمتعلقة بأسبابها ووسائل علاجها .

2_ التدخل بناءً على طلب الحكومة :

 

أثارت شرعية التدخل بناء على طلب الحكومة جدلًا فقهيًّا كبيرًا؛ حيث اعتبر البعض أن الدولة تمارس كل سلطاتها في إطار مبدأ الاختصاص المحفوظ، ومنها اتخاذ كل القرارات التي تهم أوضاعها السياسية والاقتصادية ومنها طلب تدخل دولة أجنبية لمساعدتها على القضاء على الاضطرابات الداخلية أو النزاعات الأهلية من أجل إعادة الشرعية للنظام السياسي القائم.

 

والجانب الآخر من الفقه يرى بأن التدخل بناءً على طلب الحكومة هو تدخل غير مشروع، لأن الشعب هو الوحيد الذي يحدد اختيار النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الملائم له وفقًا لمبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، وأن الحكومة التي تلجأ إلى الدول الأجنبية من أجل التدخل ضد شعبها الذي تمرد وثار على سلطتها هي حكومة غير مشروعة لأنها فقدت «شرعية» ممارسة الحكم على شعبها الذي أزال عنها صفة تمثيلها له وأفقدها الثقة فثار وتمرد عليها. واستنادًا لهذا التحليل يكون طلب التدخل الأجنبي ضد الشعب انتهاكًا صارخًا لمبدأ حق الشعوب في تقرير المصير. فأي حكومة تطلب من دولة أجنبية مساعدتها في القضاء على الاضطرابات الداخلية تعبر عن فقدانها الأسس القانونية لقيامها، وأن الدولة الأجنبية التي تتدخل في الشؤون الداخلية في هذه الحالة تقوم بإجهاض حق الشعب في التعبير عن اختياراته السياسية وترتكب جريمة دولية باستعمال القوة لإخضاع الشعوب للسيطرة الأجنبية ، ويكون تدخلها إنكارًا لحقوق الإنسان الأساسية وانتهاكًا لممارسة حق هذا الشعب في تقرير المصير، طبقًا لما ورد في قرار الجمعية العامة رقم 1514 (ديسمبر 1960) .

 

 3_ التدخل للدفاع عن الإنسانية :

 

عرفت الحياة السياسية الدولية في بداية التسعينيات أصواتًا مرتفعة عديدة في العالم الغربي معبرة عن اهتمامها بما وصفته بالمآسي المترتبة على انتهاكات حقوق الإنسان في العديد من بؤر التوتر في العالم . ونتيجة لهذا الاهتمام المتزايد الذي تحكمه اعتبارات سياسية وإستراتيجية – أكثر منها اعتبارات إنسانية - أعطت الدول القوية لنفسها حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول تحت ذريعة تقديم المساعدات الإنسانية .

 

وفي خضم حالات تدخل للدول القوية أثير نقاش قانوني حاد حول التدخل الإنساني ومعرفة من أين يستمد شرعيته القانونية ؟ وهل لجوء الدول القوية إلى التدخل في بعض القضايا الداخلية التي ترى فيها انتهاكات لحقوق الإنسان هو بمثابة ميلاد لمبدأ قانوني جديد في القانون الدولي؟

 

فقد سعت نظرية واجب التدخل الإنساني إلى تغيير مبادئ القانون الدولي الثابتة كالسيادة وعدم التدخل فيما هو من السلطان الداخلي، على أن تجربة الواقع الدولي في الغالبية العظمى من الحالات أثبتت أن التدخل الإنساني هو في الحقيقة أداة تخدم المصالح السياسية والإستراتيجية للدول القوية، التي تعجز تمامًا عن إخفاء وجود مكانة للاعتبارات السياسية داخل العمليات الإنسانية، محاولة تضليل الرأي العالمي بتقديم المساعدات الإنسانية لتتمكن من خلالها من استخدام القوة والتدخل في النزاعات الأهلية والصراعات الداخلية. الأمر الذي أوضحه رئيس الجمعية العامة، ميغيل دسكوتو، عام 2009 حين قال إن مبدأ «مسؤولية الحماية» وفهم المجتمع الدولي للتدخل لمنع وقوع ارتكاب جرائم ضد الإنسانية قد يهدد من السيادة الوطنية للدول. فإنه بحسب الاتفاق الذي تم عام 2005 بين الدول فإن مسؤولية الحماية تعني أن الدول مسؤولة عن حماية مواطنيها من جرائم الحرب والإبادة الجماعية والعرقية والجرائم المتعلقة بالإنسانية، وأن يتدخل المجتمع الدولي إذا لم تلتزم الدول بذلك. الأمر الذي أكده أمين عام الأمم المتحدة «بان كي مون» في نفس دورة الجمعية العامة حين ذكر أن «مسؤولية الحماية التزام عالمي ولا يمكن التراجع عنه، وأنه قد تقرر على أعلى المستويات ودون أي معارضة، وأن مسؤولية الأمم المتحدة هي تطبيق هذا الالتزام، كذلك ما ذكره وكيل الأمين العام لعمليات حفظ السلام أمام مجلس الأمن في جلسة 12 فبراير 2014 من أن «حفظ السلام لا يكون قابلًا للتطبيق في نهاية المطاف إلا بموافقة الحكومة المضيفة»، وأنه «ينبغي عدم الخلط بين حماية المدنيين والتدخل غير التوافقي»، في إطار المسؤولية عن توفير الحماية.

 

والحقيقة أن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول يعاني في الوقت الراهن أزمة ثقة. وإذا اقتصرنا – على سبيل المثال- على واقع تطبيقاته الحديثة، في بعض أجزاء وطننا العربي، سيتضح أن التدخل العسكري في ليبيا عام 2011 قد خرج عن الهدف المحدد له، وهو حماية المدنيين، إلى هدف إسقاط نظام وتحكم في الدولة، الأمر الذي ليس له أي صلة بمفهوم «مسؤولية الحماية». كذلك فشل مجلس الأمن في اتخاذ موقف موحد من الجرائم الجماعية التي ارتكبت في سوريا عام 2011، والتي ترقى إلى الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، ويتحمل المسؤولية المباشرة عنها دول وأطراف عديدة من داخل المنطقة وخارجها. أما أكبر صور فشل هذا المجلس في ممارسة مسؤولية الحماية، فهي بلا شك إخقاقه في حماية السكان المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تواصل إسرائيل منذ سبعين عامًا انتهاكاتها لقرارات الأمم المتحدة دون عقاب، مما يترتب عليه عدم إمكانية حماية هؤلاء السكان من جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

 

وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من كثرة الدفوع التي تتقدم بها الدول أمام فروع الأمم المتحدة، وخاصة الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، تحت شعار الإختصاص الداخلي، فقد جرى العمل داخل المنظمة الدولية على عدم الأخذ بهذه الدفوع. وإذا كانت هناك حالات قليلة قبلت فيها بعض الفروع حذف موضوع، أثير بشأنه الدفع بالإختصاص الداخلي، من جدول أعمالها، فقد كان ذلك لإعتبارات سياسية أكثر من قانونية.

 

وأخيرًا ، فإن مستقبل الأمم المتحدة يتوقف إلى حد كبير، كما سبق الإشارة في تلك الورقة، على مدى التوسع في تفسير ما يعد من المسائل داخلًا في الإختصاص الداخلي. وعلى الممارسات العملية للدول الكبرى والتزامها بأحكام القانون الدولي والمساواة في السيادة بين الدول، وعلى مدى التعنت والضغوط التي تمارسها هذه الدول - من أجل مصالحها الذاتية – على الدول الصغيرة والتدخل في صميم شؤونها الداخلية. إن الشعوب، كل الشعوب، والدول المحبة للسلام، والمؤسسات الأهلية، على المستويين الداخلي والعالمي، مطالبة بأن تتصدى بقوة للتصرفات غير الشرعية كافة، وإعلاء أهداف ومبادئ ميثاق الهيئة العالمية للأمم المتحدة.