أحمد صدقي اليماني يكتب لـ(اليوم الثامن):

حقوق الطفل الإفريقي.. معركة مستمرة في قارة التحديات

 يأتي السادس عشر من يونيو كل عام ليذكر العالم بقصة أليمة، لكنها ضرورية، هي قصة أطفال سويتو في جنوب إفريقيا عام 1976، حين خرج آلاف التلاميذ السود إلى الشوارع محتجين على فرض اللغة الإفريكانية في التعليم، فكان الرد من قوات الفصل العنصري رصاصًا حيًا أسقط مئات القتلى من الأطفال. لم يكن ذلك الحدث مجرد مأساة عابرة في تاريخ جنوب إفريقيا، بل صار شاهدًا على قسوة العالم تجاه الطفولة الإفريقية، وأصبح لاحقًا الدافع لتخصيص هذا اليوم كيوم عالمي للطفل الإفريقي، يوم لا يُحتفل فيه بالضحك والألوان والبالونات، بل بالدموع والوجع والتأمل، وربما أيضًا، ببذور أملٍ صغيرة تُزرع في التربة الصعبة.

الطفل الإفريقي اليوم لا يختلف كثيرًا في قضاياه عن طفل سويتو قبل نصف قرن. القارة السمراء، التي تحتضن أكثر من 250 مليون طفل، ما زالت تكافح لتمنح أطفالها الحد الأدنى من الحقوق التي يُفترض أن تكون بديهية. في ربوع القارة، لا يزال التعليم امتيازًا أكثر منه حقًا، إذ تشير تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إلى أن عشرات الملايين من الأطفال لا يرتادون المدارس، إما بسبب الفقر، أو البنية التحتية المنهارة، أو بسبب النزاعات المسلحة، أو ببساطة لأنهم وُلدوا في مناطق لم تعترف بها الدولة بعد. في بعض الدول، تصل نسبة الأطفال غير الملتحقين بالمدارس إلى أكثر من 40%، فيما تبقى نوعية التعليم المتوفر، حين يكون متاحًا، ضعيفة ولا تؤهلهم للمنافسة في عالم يتسارع من حولهم. وفي المجال الصحي، تبدو الصورة أكثر قسوة. يموت ملايين الأطفال دون سن الخامسة كل عام في إفريقيا، غالبيتهم بسبب أمراض يمكن الوقاية منها أو علاجها بسهولة، كالإسهال، والملاريا، والالتهاب الرئوي، وسوء التغذية. وفي دول مثل النيجر وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى، لا تتجاوز تغطية اللقاحات الأساسية نسبة 50%. الأطفال هناك لا يحصلون على رعاية صحية شاملة، ولا على مياه نظيفة، ولا على بيئة آمنة، ما يجعل طفولتهم قصيرة، وهشة، وغالبًا مأساوية.

ثم هناك الوجه الخفي للمعاناة، ذاك الذي لا تتحدث عنه الإحصاءات كثيرًا، الأطفال الذين يُجندون في الحروب، الذين يُباعون في شبكات الاتجار بالبشر، الذين يُجبرون على الزواج المبكر، أو العمل في ظروف قاسية وخطيرة وهم لم يتجاوزوا سن العاشرة. يكبر هؤلاء الأطفال وهم يحملون في عيونهم ذكريات لا تناسب أعمارهم، ويُنتزع منهم حق اللعب، وحق الحلم، وحق البراءة.

ومن بين كل المناطق الإفريقية، تبدو منطقة شرق إفريقيا وكأنها تعيش في قلب هذا الجرح المفتوح. ففي الصومال، يتربى الأطفال في ظل حروب لا تنتهي، حيث المدارس مدمرة، والمستشفيات خاوية، والطرق محفوفة بالخطر. وفي جنوب السودان، لا يزال مئات الآلاف من الأطفال يعيشون في مخيمات النزوح، يعانون من الجوع والتشريد وفقدان الهوية. وفي إثيوبيا، تحولت بعض مناطق البلاد إلى ساحات نزاع أحرقت القرى والمزارع، وتسببت في موجات من النزوح الجماعي، وكان الأطفال كالعادة هم الضحايا الأضعف.

لكن هذه الصورة القاتمة لا تكتمل دون أن نلمح في أركانها بعض الضوء. صحيح أن المآسي كبيرة، ولكن الإرادة لا تزال تقاوم. في كيبيرا، أحد أكبر أحياء الصفيح في نيروبي، تشهد المدارس المجتمعية إقبالًا متزايدًا من أطفال كانوا سابقًا في الشوارع. في إثيوبيا، ورغم الحرب، تستمر مبادرات تطعيم الأطفال، ولو ببطء، وتبقى الحملات الصحية تصل إلى القرى النائية بشق الأنفس. في أوغندا، تعمل الجمعيات المحلية والدولية معًا لإعادة دمج الأطفال اللاجئين في المدارس، وتوفير برامج دعم نفسي لهم. ورغم كل الألم، فإن أصوات الأطفال تظل تضحك وتغني في بعض زوايا المدن، في الحقول، في مخيمات النزوح، وحتى في الملاجئ المؤقتة، كأنها تقول: "نحن هنا، لا نزال نحلم."

أمل الطفل الإفريقي لا يكمن في صدقات العالم، ولا في الوعود المؤقتة، بل في الاعتراف الحقيقي بأن له نفس الحق في الحياة الكريمة والتعليم الجيد والرعاية الصحية التي يحصل عليها الطفل في النرويج أو اليابان. هذا الاعتراف يبدأ من الداخل، من الحكومات الإفريقية نفسها، حين تدرك أن مستقبل القارة لن يُبنى إلا على أكتاف أجيال متعلمة، معافاة، وآمنة. ويأتي بعده دور المجتمع الدولي، الذي عليه أن يكفّ عن النظر إلى إفريقيا باعتبارها منطقة أزمات موسمية، ويتعامل معها كشريك في البناء.

نعم، ما زالت الطريق طويلة، وربما شاقة. لكن الطفل الإفريقي، بطاقته الفطرية، ومرونته العجيبة، وعينيه المملوءتين بتساؤلات الحياة، يستحق أن نمشي هذه الطريق معه. وربما، في يوم قريب، يصبح السادس عشر من يونيو لا مجرد يومًا للذكرى، بل يومًا نحتفل فيه بتحقيق العدالة والكرامة لطفلٍ لم يعد يركض هاربًا من الرصاص، بل يسير مطمئنًا نحو مدرسته، وفي حقيبته حلم.