حسن العديني يكتب:
"نهم" السقوط المريع وصناعة الهزيمة
لم يحمل سقوط نهم وما وراءها في أيدي الحوثيين، أية مفاجأة، سوى سرعة وقوعها.
كان متوقعاً أن يقرر الحوثيون في وقت يحددونه، إزاحة الكابوس الرابض على مقربة من العاصمة، مهما كان من طول استرخاء القوات لا تتقدم وحتى لا تحاول.
من الناحية العسكرية، فإن الاسترخاء يصيب الجنود بالملل والإحباط، ويضرب روحهم المعنوية، فلم يحدث في تاريخ الحروب أن يتوقف جيش على إحدى الجبهات لمدة تتجاوز الأربع سنوات، بينما الحرب مشتعلة على مختلف الجبهات.
وليس هذا السبب وحده، وإنما هناك الخطط والاستراتيجيات والتكتيكات والجاهزية القتالية والعتاد، وأشياء أخرى يعرفها الخبراء العسكريون.
وأما العتاد فهو متوفر إلى درجة التفوق الساحق لمصلحة قوات الشرعية، فضلاً عن تمتعها بغطاء جوي من أحدث ما أنتجته الصناعات العسكرية.
4 سنوات من النوم في العسل، كما قال الكوميدي عادل إمام، في فيلم الذي حمل الاسم نفسه.
شيء عجيب ومخزٍ، ثم يستغرب البعض أن هذا حصل.
ولقد كنت خلال يومي التقهقر أتواصل مع أصدقاء صدقوا أن قوات الحكومة تتقدم، وكنت على ثقة من صحة الأخبار التي تتحدث عن الهزيمة.
لكن في أحيان كثيرة يذهب البعض إلى تصديق ما يتمنونه، فيما يتجاهلون الحقائق.
وفي هذا حضرت إلى ذهني عبارة بليغة لمحمد حسنين هيكل، كتبها مطلع السبعينيات، في أحد مقالاته الشهيرة في “الأهرام”؛ “بصراحة”، قال: “إن الذين يتجاهلون الحقائق تتجاهلهم الحقائق، ثم إن النسيان كأي عقار مهدئ، قليل منه قد يكون دواء، ولكن الإدمان عليه غيبوبة، كما أن التمادي فيه سم زعاف”.
هل يصح هنا أن نضع الوهم في مكان النسيان، لكي لا نتذكر أن قوات الحكومة لا تقول الحقيقة في أكثر المرات.
إن وزارة الدفاع لم تصدر بيانات عسكرية تتحدث عن سير المعارك. ومن بعد، فإنها لم تعترف بالجائحة التي أصابت جيشها.
وبينما تلتزم الصمت توظف كتائب إعلامية نشيطة في مواقع التواصل الاجتماعي، تنحي باللائمة على التحالف.
كما لو أنها تغطي خيانة من بعض القادة والضباط، خصوصاً أن بعض الحوثيين نفى عنهم البطولة أو العبقرية العسكرية، وقال بأنهم احتلوا المواقع دون قتال.
ومن الحكومة صدرت اعترافات ملتبسة بأن أوامر صدرت بالانسحاب، والعذر القبيح أنهم أرادوا أن يأخذوا عتادهم لكي لا يقع في يد الحوثيين.
والمعنى أن متخذ القرار قرر الهزيمة قبل أن يخوض الحرب، فالانسحاب قد يكون تكتيكياً لإيقاع العدو في فخ، والإطباق عليه، وأما أن يتم بلا قتال، فلا تفسير له غير الخيانة أو الذل، وكلاهما ينزعان شرف الجندية، إذ إن الاستسلام لم يكن خياراً بديلاً، فإن الكرامة توجب القتال حتى آخر جندي وآخر طلقة.
ولقد تحدث البعض عن اختراق حساب ضابط كبير، هو في الواقع منشغل في الوديعة بتحصيل الرسوم الجمركية، وليس له أية سلطة على القوات في نهم.
ثم ذهبت منشورات كثيفة لعناصر محسوبة على فصيل سياسي معين، إلى تحميل الإمارات العربية المتحدة مسؤولية ما جرى.
وليس من معنى في ذلك غير الغباء السياسي لهذا الفصيل الذي يحرث في البحر ويصطاد السمك في الصحراء.
وإذن، ما هو تفسير ما جرى؟
لم تصدر الحكومة توضيحاً. وأكبر الظن أنهم في وزارة الدفاع ورئاسة الأركان لم يجروا تقييماً ومراجعة حتى يعرفوا ويقرروا.
الإجراء الوحيد هو قرار اتخذه الرئيس بعزل قائد المنطقة العسكرية السابعة، في حين أن التقصير وربما الخيانة ليس من صنع رجل واحد.
ما هي مسؤولية رئيس الأركان ووزير الدفاع وقائد العمليات والمسؤول الكبير الذي يلحق بالجيش عناصر مدنية، ويمنحها أرفع الرتب، ثم يضعها في مراكز عسكرية عليا يفترض فيها أنها تخطط وتقود وتوجه؟
وعلى الجبهة هناك، فإن الأمر الطبيعي أن القوات كانت تتبنى خطة هجومية، وتتخذ مواضع تستعد فيها للهجوم والانقضاض على العدو.
ثم إن العلم العسكري يفترض أن تكون لديها خطة دفاع إذا ما واجهت مباغتة من الطرف الآخر.
هل كان هذا موجوداً؟ لا أعلم، وليس لي أن أجتهد، لكن لا يجوز الصمت، ولا يحق للحكومة التستر على ما جرى بذريعة حماية الأسرار العسكرية.
إن صناعة الهزيمة سواءً بالخيانة أو بالتقصير، توجب كشفها وفضح مرتكبيها وتقديمهم إلى المحاكمة.
غير أني أجرؤ على القول بأن سقوط المواقع هو نتيجة طبيعية ومحتمة لسقوط الرجال، ليس العسكريون وحدهم، وإنما الطبقة السياسية الواقعة في الوحل من زمن بعيد، فإن الفساد ينخرها حتى النخاع الشوكي.
لقد كانت القيادات الحزبية ترى وتسمع وتعلم أن القوات التي يجري إعدادها ليست جيشاً، حتى ولا جيش هش.
بين هذه القيادات من شارك في الجرم بالفعل، وبينها من تواطأ بالصمت.
ولكي أكون أميناً، فإن القليل منهم تكلم، تكلم مرة أو مرتين، ثم لاذ بالصمت.
انشغلت القيادات بالبحث عن الغنائم، والتنافس على الوظائف لهم ولأقاربهم والمحاسيب، وهم نجحوا في هذا نجاحاً باهراً، وإن كانوا استخدموا من أجله كل الوسائل الرخيصة، بما فيها الدس على بعضهم.
والآن، إلى أين تتجه الأحداث؟
هناك حديث متداول عن مفاوضات بين الحوثي والإصلاح، لتسليم مدينة مأرب، يتزامن معه تلميحات من دول راعية للمبادرة الخليجية بالاعتراف بالحوثي كأمر واقع.
ولا تتوفر معلومات عن الشوط المقطوع في المفاوضات بين السعوديين والحوثيين، لكن مسؤولاً سودانياً قال بأنهم يتفاوضون من أجل تحرير أسرى سودانيين بواسطة التحالف، بما يعني أن الاتصالات لم تنقطع، وأن السعودية تتصرف من وراء الحكومة.
في الجنوب، لا يبدو اتفاق الرياض قابلاً للتنفيذ، والنتيجة أن المعادلة ستنحصر بين طرفي الحوثي و”الانتقالي”، غير أن هذا لن يعيد الأوضاع إلى ما قبل 1990، لأن بقاء الجنوب موحداً احتمال محل شك.
مجمل القول أن سقوط النخبة أودى بالدولة إلى الانهيار الكبير.