رشيد الخيُّون يكتب:
خطيب المرجعية.. خشية خسارة الحُكم
صار تقليد المرجعية الدينية بالنجف تبث كلمة للجمهور، في صلاة الجمعة، تلك الصَّلاة المعطلة، عند الإماميَّة، منذ زمن غابر، واختلف الفقهاء في قيامها أو تركها، فهي التي تُقام عادة بدلاً مِن صلاة الظهيرة، مِن كلِّ جمعة. جاء في القرآن: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (الجمعة: 9)، وعُرفت السُّورة التي وردت بـ«الجمعة»، وبما أن في خطبتها، عبر التَّاريخ، ترد إشادة ودعاء للحاكم، صفح عنها فقهاء الإماميّة، على أنها لا تُقام إلا في ظل إمام عادل، وأُعلنت في العهد الصَّفوي، لكن بعض فقهاء الإمامية ردوا على فقيه ذلك العهد، علي عبدالعال الكركي (ت1534) الذي أباحها، ومنهم إبراهيم القطيفي (ت1543)، والإمام العادل حسب التقليد الإمامي هو المهدي المنتظر، أو مَن ينوبه، حسب نظرية «ولاية الفقيه» (الجابري، صلاة الجمعة تاريخياً وفقهياً)، لكن لا نظن أن الفقهاء الذين تبوؤوا مراكز في السلطة، والوزراء الشيعة في الخلافة العباسية، لم يؤدوها مع الخلفاء.
بدأت صلاة الجمعة وخطبتها بإيران بعد الثَّورة (1979)، وبالعراق أقيمت خلال الحملة الإيمانية من قِبل النظام السَّابق، أقامها محمد محمد صادق الصَّدر (قُتل 1999)، وهو يرتدي الكفن، مثلما كان يرتديه، مِن قبل، محمد مهدي الخالصي الابن (ت1963)، عن إقامته للجمعة بالكاظمية، بمرجعيته المحدودة مِن حيث عدد الأتباع، أما مراجع النَّجف فلا يقيمونها ولا يمنعونها.
لكن بعد 2003 صارت المرجعية تُقيمها بشكل منتظم، تسبقها خطبة سياسية، فيها النَّصائح للطبقة السِّياسية، وللمجتمع الذي يُقلدها، حتى صار يُظن أنها تمارس دور «ولاية الفقيه المطلقة»، مع أنها أفتت بعدم الاعتقاد بها (الخفاف، النصوص الصادرة عن سماحة السيد السِّيستاني في المسألة العراقية). فيا تُرى هل تُعامل المرجعية الحُكم الحالي مثلما عامل الكركي العهد الصَّفوي، على أنه الحكم العادل في نظره ونظرها، في زمن الغيبة، أي غيبة الإمام المهدي؟!
يتدخل مراجع الدِّين في الأزمات، عند الحاجة، لمنع التَّدهور وحماية المُقلدين والمجتمع عموماً، وحدث في تاريخ العراق مناسبات عديدة تَدخَل فيها رجال الدِّين، مِن الشِّيعة والسُّنّة، كمسألة الدستور (1906)، والغزو البريطاني لجنوب العراق (1914)، وثورة العشرين (1920)، وحوادث 1935، و1941 و1991، وأخيراً 2003.
لكنَّ حصل ذلك ليس بقصد استلام السُّلطة مِن قِبلهم، إنما الدَّور ينتهي باستتباب الأوضاع، وليس على ما حاوله المطاوعة مِن رجال الحديث خلال المعارك (196هجرية) بين ابني هارون الرَّشيد (ت193هجرية)، حين نظم البعض نفسه لتولي الحُكم، وعرفوا بالمطوعة (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك).
بعد هذان نأتي إلى المطلوب في المقال: قال خطيب المرجعية بكربلاء (22/11/2019) العبارة التالية: «بل ممكن أن يؤدي سفك الدَّماء إلى ضعف الحُكم وزواله، وانتقال الحُكم إلى آخرين» (فيديو خطبة الجمعة)!
لا ندري هل عبارة التحذير مِن انتقال الحُكم إلى آخرين جاءت مِن تفكير المرجعية، أم خاطرة مِن الخطيب نفسه، لكنه في كلِّ الأحوال لسان حالها. فكان قد تلا بيان المرجعية في أول الخطبة التي أشارت فيها إلى أنها مع الاحتجاجات السلمية، والتشديد على حُرمة الدّم العراقي، وتلبية المطالب، وضرورة الإسراع في إنجاز قانون الانتخابات، ومفوضيتها. فهل قصد الخطيب بعبارة «انتقال الحُكم إلى آخرين»، أنها تبقى في الطَّائفة والأحزاب نفسها، ويستبعد عنها غيرها، وبالفعل إبعاد هذه الأحزاب يعني سقوط النّظام الذي صار للمرجعية ستة عشر عاماً تنصحه، وتوصي بالصبر عليه، حتى انفجرت الاحتجاجات الكبرى في الأول مِن أكتوبر مِن العام السَّابق!
كان خطيب المرجعية، قبل اعتمار العِمامة، مهندساً، وبعض من قدموا أنفسهم مراجع تخرجوا من الهندسة، درسوها في ظل النَّظام السَّابق، فالمفروض أنهم احتكوا بالمجتمع وتعرفوا على أسباب ثوراته، ومثلما تريد المرجعية يُطالب المحتجون بإصلاح النّظام، لكنهم لا يجدون أدواته. فالأحزاب التي باركتها المرجعية، لا يعني عندها الإصلاح غير إدامة الخراب، فكيف يُطلب الإصلاح مِمن يخشى الإصلاح؟!
إذا كان خطيب المرجعية يُحذر مِن الآخرين، وربَّما قصد بهم المنتفضين أنفسهم، فبينهم المحامون والاقتصاديون والمثقفون، مِن نساء ورجال، وبالتَّالي أن المذكورين، ولأول مرة لم يتكئ المتظاهرون على رجال الدِّين، بل لا يحبذون وجود أيِّ معمم حزبي بينهم، مهما بلغت منزلته.
بقدر ما استفادت الأحزاب الدِّينية مِن خطباء الجمع، حتى صار لكلِّ حزب جمعته، بقدر ما يحقُّ للمحتجين إبعاد توظيف الدِّين عن ساحاتهم. فإذا كانت الدّماء التي نزفت، ومع ذلك يتحدث خطيب كربلاء الذي يُعتبر صوت المرجعية، عن الخشية مِن انتقال «الحكم إلى آخرين»! فهل معنى ذلك أن هذه الطَّبقة الحاكمة ستؤبد في الحكم، حسب منطق «ماننطيها» (مانعطيها)؟!
هذا ما جاء نصاً في خطبة استلام السلطة مِن قِبل العباسيين بالكوفة (132هجرية): «أعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم» (الطَّبري، نفسه). يعرف خطيب الجمعة مَن صاحب «ماننطيها»، وكم تتناغم المقولة المذكورة مع عبارة التحذير مِن انتقال «الحكم إلى آخرين»!
عندما أشرفت بغداد على الانهيار ولم يبق لغزوها مِن قِبل التَّتار إلا أسابيع، قال أبو المجد النَّشابي (ت657هجرية): «وشيخ الإسلام صدر الدِّين همته/ مقصورة لحطام المال يصطاد/ يا ضيعة المُلك والدِّين الحنيف وما/تلقاه من حادثات الدَّهر بَغْدادُ» (الحوادث الجامعة). يا خطيب كربلاء القوى التي تُحذرها مِن ذهاب الحكم إلى آخرين، بالغت عمائمهم بالعبث، حتى «سبق السَّيفُ العذل»، ومعنى العذل العتاب، فلا ينفع لها إسداء نصيحةٍ أو عتابٍ.