رشيد الخيُّون يكتب:
المُحسنة.. أمّ أبي نواس
كم كانت جلبان البصريَّة أمُّ أبي نواس (المتوفى 198هـ) متقدمة على عصرنا، الذي شهدنا فيه خنق الطِّفل المولود من علاقة خارج الزَّواج، أو رميه على قارعة الطَّريق. كانت جلبان تحتضن أولاد الزِّنى، فكانوا محظوظين لأنهم لم يُقتلوا حين ولادتهم، فكم من الأطفال المواليد خنقوا بأيدي القابلات، وثانيا إنهم وجدوا مَن اعترف بهم، كالمُحسنة أمِّ أبي نواس.
سمعتُ يوما محادثة بين عجائز يذكرنَ جمال الطّفل الذي خُنق قبل ليلة، وكان الأب يدرس معنا في المتوسطة، وأقام علاقة مع ابنة الأسرة الساكنة بمحاذاة القسم الداخلي.
خُنق الطّفل، واسمه النغل (ابن الزنا)، قبل أن يأخذ اسما، حين ولادته، خشية من الفضيحة. فمَن القاتل؟! القابلة أم الأمّ، أم العشيرة؟! وعلى الرَّغم مِن علانية الجريمة فالسلطة لم تتدخل، بقضية قتل مفضوحة، ذلك بعد أن أصبحت عبارة “نكحتك نفسي”، أثمن مِن الحياة، مع أن عاقد الزَّواج، رجل الدِّين، كانت له صلات سرية تبررها عبارة “نكحتك نفسي”!
إنه الوأد، الذي كان يُمارس قبل الإسلام، ويمارس لدى شعوب أُخرى، بطريقة مِن الطُّرق. جاء الوأد امتدادا لطقس ديني، ثم اختلط مع أعراف اجتماعية، فصار يُمارس للوقاية مِن أسر البنات، فيومذاك كانت الدنيا غازيا ومغزيا. لكن ما العذر بممارسته بوجود قوانين تُعاقب على زهق الأرواح، وهذا ما عبّر عنه القرآن “مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا” (المائدة: الآية 32). فهل كان المولود مذنبا كي يُخنق، بلا تحقيق مِن السُّلطة، ولا رفض مِن رجال الدِّين؟!
تترك مثل هذه الممارسة ثقافة عنف فظيعة في المجتمع، فالجرأة على حياة طفل، ينظر لمَن طوّقت عنقه بأصابعها كأنها تداعبه، فالشرُّ كلّ الشرِّ بزهق روحه، ودسه في التراب تحت جنح الظلام. لكن مِن العجب، أن بعض الفقهاء أشاروا إلى أن الزِّنا خشية التلف أهون الشَّرين، وأن فقهاءَ اعتبروا مَن بلغت الثامنة عشرة من حقها تحديد علاقتها!
السؤال: كيف هيمنت القبيلة على الدِّين، وبالتالي اشتركا في غض النَّظر عن قتل طفل، حتى صار قتله، وهو لم يبلغ اليوم أو اليومين، وأمام عيني أمّه، فداء للأعراف والتقاليد؟! وهل الأمر جديد أم قديم؟! نظنه كان قديما، يوم أخذ الفقه بالعُرف، حتى أصبح قانونا، وإن كان قتل طفل غرير! رحم الله جلبان أمَّك يا أبا نواس المنبوذ مِن قِبل أهل الشَّرف المقدس! كانت متمدنة أعفّ ممّن تآمر على الطفولة مع عتاة القبلية!