عمر علي البدوي يكتب:

نُذر التصعيد والتبريد في المنطقة

استعاد الحوثيون نشاطهم خلال الفترة القصيرة الماضية، بما فيها الهجمات الصاروخية قصيرة المدى على الحدود السعودية، والإفراط الإعلامي في إظهار فعاليتهم المتوهمة ومن ذلك الادعاء باستهداف مواقع نفطية في السعودية، بعد جولة من التهدئة شهدها اليمن مؤخراً.

لكن يبدو أن هذا التصعيد يأتي جزءاً من استراتيجية الرد الإيراني على الصفعة الموجعة التي تلقتها الشهر الماضي، وبحكم ارتهان الجماعة الحوثية لخيارات طهران وحساباتها، استغرقت في دور جديد يخفف من الضغط الذي يواجهه رعاتها في إيران نتيجة الهزائم المنكرة التي يتلقونها كل مرة.

بدت رياح ما بعد مقتل قاسم سليماني وكأنها هدأت إلى حد بعيد، وأن منطقة الخليج العربي شهدت تبريدا ملموسا من الأطراف الفاعلة في مشهده، وقدّمت إيران إشارة على عدم نيتها التصعيد بعد خسارة أهم زعامائها، وأن صواريخ “حفظ ماء الوجه” كانت كافية لإلهاء أنصارها المتعطشين لمعارك الكلام ووجبات الشعارات الدسمة في مقارعة “الشيطان الأكبر”.

لكن هذا ليس كافياً لتقديم شهادة قاطعة بتنازل طهران عن مشروعها أو انخفاض حماسها لتنفيذه، وليس أكثر من مجرد انحناء تكتيكي فرضته قسوة المواجهة ووطأة العقوبات، وكلفة الغضب الأميركي، إلى حين مرور العاصفة، سواء بأمنيات خسارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لفرصة ولايته الثانية ووصول رئيس آخر يذكرهم بأيام باراك أوباما السعيدة، أو بخلق ثغرة في جدار العزلة الدولية تمكنهم من التحايل والالتفاف على مرّ الحقيقة الراهنة، وتؤمّن خروجا مقبولا بأقل التنازلات والخسائر في رصيد مشروعهم التوسعي وأجندتهم التخريبية.

دول المواجهة الصريحة، لاسيما المملكة العربية السعودية، أكثر من يعرف حقيقة النظام في إيران، ويدرك أن مسألة تنازله عن مشروعه تشبه الانتحار، وأن النظام والمشروع متلازمان بما لا يصحّ معه التفريق والتفاوض ورجاء الخير من ورائه، وأن القيادة المتشبّعة بعقيدة ميتافيزيقية متشددة على نحو ما عرفته المنطقة من جماعات العنف والتطرف، ليست مستعدة لإعادة النظر في سلوكها وسياساتها، لأنها تفعل ذلك من منطلق مصيري وحدّيّ، لا يفهم من السياسة إلا وسيلة لغاية نهائية موغلة في البدائية والتخلف.

وهذا ما قاله نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، بأن الخلاف بين السعودية وإيران ليس متعلقاً بالسنّة والشّيعة بل هو تصادم بين رؤية 2030 ورؤية 1979، وأن جهود بعض العواصم الأوروبية لاسترضاء إيران قد يكون ثمنها فادحاً، على مقاس ألمانيا النازية.

لكن الرياض لم تغلق الأبواب دون أيّ فرصة للحوار، بل أكدت في الكثير من المرات دعمها لأيّ مشروع تتبناه دول إقليمية أو دولية لتجسير الهوة في المنطقة وردم الفجوة بين دولها، وشددت على عدم الدفع بالأزمة إلى نهاياتها القصوى، أو جرّ المنطقة إلى حرب مدمرة لن يسلم منها أحد.

وقد أكد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، أن المملكة منفتحة على إجراء محادثات مع طهران، مشدداً على أن “الأمر يرجع في الحقيقة إلى إيران”. وأضاف أنه يتعين على إيران أن تقر بأنه “لا يمكنها دفع أجندتها الإقليمية من خلال العنف”، كشرط لأيّ محادثات.

وتابع “سعداء بأن المنطقة تجنّبت أيّ تصعيد مع إيران”، مشيراً إلى أن دولاً كثيرة عرضت الوساطة لإجراء محادثات مع إيران.

السعودية تفضل استثمار حالة الضعف التي تكابدها إيران اليوم، لصالح دفعها إلى تأسيس حالة سلام دائم ووضع أسس متينة لحل نهائي، يجنب المنطقة وشعوبها ويلات الصدام والقلق والاضطراب الذي عرفته منذ اختارت طهران مناصبة جيرانها العداء والفتّ في عضد استقرار المنطقة والسلم الأهلي لشعوبها، بشرط أن يحدث ذلك على أساس سليم، لا يساوم أو يزايد على هواجس الدول العربية، أو يقدمها لقمة سائغة لأصحاب المشاريع الإقليمية التوسعية، وأن تحتفظ الصياغات السياسية بحق أهل المنطقة في وضع هواجسهم وشروطهم في سلة الصفقات وعلى طاولتها، وليس خارج الحسابات والتفاهمات، وأن يكون المجتمع الدولي حاضراً بصفة نزيهة تزيد في زخم المصداقية والالتزام، وليس بصفة التفافية تعطي الشرعية لواقع مهلهل أو صيغة مزيفة.

وقد طرح وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي فكرة من هذا القبيل، خلال منتدى دافوس الاقتصادي العالمي الذي انعقد مؤخرا، وقال إن الأطراف المعنية بالنزاعات في منطقة الشرق الأوسط لا تريد حلها بل إدارتها، وأنهم يجتمعون لحماية مصالحهم لا لإيجاد حلول للأزمات. وتساءل هل ننوي الاستمرار على هذه الوتيرة؟ ماذا نريد أن نراه في الشرق الأوسط خلال الـ50 سنة المقبلة؟ لم نجد جوابا على هذا السؤال.

وتبذل عمان جهوداً لإحداث اختراق ما في ملفّ الخلافات الإيرانية – الأميركية الحادّة، والمنعكس بطبيعة الحال على المنطقة، وهي التي تملك علاقات مهمة مع الجانبين الإيراني والأميركي، ومطلوب منها عدم تكرار الخطأ السابق، عندما استضافت إرهاصات الاتفاق النووي الماضي وشاركت في بواكيره، بضرورة إطلاع الدول المجاورة واستصحاب هواجسها وتحفظاتها ورغباتها في تفاصيل أيّ خطوة تتخذها في هذا السياق، وإلا فإنها ستكون بمثابة جولة جديدة من مسلسل الحلقات المفرغة ودوامة أخرى تستمر في استنزاف المنطقة وتأجيل حقها في التنمية والهدوء والتقدم.

ورغم المرحلة القاسية التي تعصف بإيران، يرفض قياديوها الاعتراف بأساس المشكلة، ويطير دبلوماسيوها في كل مكان باعتبارهم الوجه المتحضر، وقفازات حرير المخالب المتحفزة، لتقديم سردية مزيفة تبعد عنهم شبهات المسؤولية وتلقي بأعبائها على الآخرين، في استمرار للتحايل على الواقع والقفز على الحقائق وحماية للمشروع من أيّ ضرورة للتنازل عنه أو خفض وتيرته.

وعبّر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عن استعداد بلاده لـ”الحوار مع جاراتها”، مؤكدًا في تغريدة له باللغة العربية على تويتر، استعداد إيران لـ”المشاركة في أيّ عمل تكاملي يصبّ في مصلحة المنطقة”، على حد وصفه. وأضاف ظريف في تغريدته، أن طهران “ترحب بأيّ خطوة تعيد الأمل لشعوب المنطقة وتأتي لها بالاستقرار والازدهار”.

بعد يوم واحد فقط من هذه التصريحات المسرحية لما يُفترض أنه وجه النظام الوديع، هاجم أحد صقوره المتطرفين دولة الكويت، وصرح أمير علي حاجي زادة قائد القوات الجوفضائية التابعة للحرس الثوري الإيراني بأن الأراضي الكويتية كانت جزءاً من عملية اغتيال سليماني، الأمر الذي استفز القيادة الكويتية وسجل استمراراً وإصراراً من طهران على افتعال الأزمات والاضطرابات على أرض هشة من الاختلاقات والفبركات.