كرم نعمة يكتب:
عندما يجلس الصحافي على الكرسي الحكومي
الفكرة المفترضة وإن لم تكن مثالية تقول إن الصحافي عندما يتقلد منصبا حكوميا عاليا فإنه سيكون أقرب الناس إلى الزملاء السابقين، سيقف مع الصحافيين للدفاع عن مواقفهم، كما سيكون مخلصا حيال الإيمان بحرية تبادل المعلومات وفق ديمقراطية حرة من الأفكار.
ذلك ما يفترض أن يحدث لكنه في الواقع يكاد يمثل خيبة في أرقى النماذج الديمقراطية العالمية، أما في عالمنا العربي فسيختبئ الصحافي السابق وراء كرسيه الحكومي الجديد ويقطع صلته بزملاء الأمس، تنام لديه الفكرة القائلة بأن الصحافي يسمع بأكثر من أذن ويرى بأكثر من عين ويمشي بأكثر من قدم، لأنه ببساطة سيتحول إلى مسؤول حكومي في دول عربية لا تشجع على المشي السياسي الصحي!!
من السهولة بمكان أن يدرج القراء أمثلة على ذلك الواقع في العالم العربي، كما يحتفظ الزملاء الصحافيون بتجارب من المفيد عرضها من أجل فكرة المجتمع الحر وديمقراطية تبادل المعلومات.
تسنى لي أن أكون في نشاط سياسي مع عدد من الصحافيين في دولة عربية، وبينما نقف في حلقات بانتظار بدء الفعالية، تقدم منا مسؤول حكومي يتقلد منصبا قياديا في تلك الدولة وبادر بتحيّتنا والحديث عن واقع بلده السياسي، ولأن الصحافي مطلوب منه بشكل دائم أن يستثمر المكان الذي فيه، كانت فرصتي في إطلاق الأسئلة التي رحب بها المسؤول وتفاعل معها، وبالفعل أجاب على ما يمكن أن اعتبره الموضوع الأكثر طلبا في وسائل الإعلام آنذاك.
كنت سعيدا حينها أن أظفر بقصتي الصحافية التي لم يصل إليها غيري، لكن الذي حدث أن زميلا سابقا ومستشارا إعلاميا للمسؤول الحكومي اتصل بي بعد ساعات من الحديث، وأخبرني أن كل ما قيل ليس للنشر!
المسؤولية الأخلاقية تدفعني إلى الالتزام بما طلبه الصحافي السابق والمستشار الحكومي اليوم، إلا أنني لا أشك أن مشاعر الخيبة التي انتابتني بعدها يمكن أن تنتابه أيضا لو كان في مكاني، فما الذي يدفعه لمغادرة “صحافيته” لمجرد أنه أصبح في موقع حكومي مسؤول؟ الصحافي بالنسبة للحكومات كائن ضار بشكل دائم، بينما هو الأكثر نفعا للجمهور من أجل إيصال حقيقة ما يحدث.
ذلك ليس مقتصرا على واقعنا الإعلامي العربي، أن أمثلة ما يحدث في البيت الأبيض لا يثير الاستغراب في زمن دونالد ترامب، هناك فكرة مستمرة ومتصاعدة يقودها ترامب لشيطنة الصحافة.
فصارت اللغة التي يستخدمها الحكام الاستبداديون ورجال الدين المتشددون حول الصحافة مستوحاة من اللغة التي جاء بها الرئيس الأميركي.
أن يعترف كبار الصحافيين الأميركيين بأن البيت الأبيض يمالي المراسلين من أجل مصلحة ما، فإن الاختلال في القيم الصحافية قد امتد إلى كبرى الديمقراطيات المعروفة بصحافتها الحرة وبحرية تداول المعلومات.
مثل هذا الكلام أيضا تناوله آدم بولتون المحرر السياسي السابق لشبكة سكاي نيوز، عندما طالب المستشار الإعلامي لرئيس أي حكومة بعدم إقصاء الصحافيين والعمل على مساعدتهم في الحصول على المعلومة الدقيقة، رافضا أن تكون مهمة المستشار الإعلامي لرئيس الحكومة هي إملاء الأخبار على الصحافيين.
بوريس جونسون نفسه صحافي سابق يجلس اليوم في أعلى كرسي حكومي في 10 داوينغ ستريت، يعامل الصحافيين بازدراء وتفرقة غير مسبوقة. فهو يستخدم مصورا خاصا به ويستغني عن مصوري وسائل الإعلام المستقلة.
ويفضل عادة الإجابة على الأسئلة التي تصله من الجمهور على أسئلة الصحافيين الأكثر أهمية والتي غالبا ما تكون محرجة ومطلوبة من قبل الرأي العام.
هناك ضجة متصاعدة في أروقة “فيلت ستريت” بعد استبعاد الصحافة المضادة لسياسة الحكومة البريطانية، من الأنشطة التي يقوم بها جونسون، الأمر الذي دفع المعارضة إلى اتهامه باستنساخ أساليب الرئيس الأميركي في استبعاد الصحافيين الذين لا يروقون له. بل وصل الحال بمنع وزراء ومستشارين في حكومته من الظهور ببرامج إخبارية في هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” وقنوات بريطانية أخرى. الأمر الذي دفع صحيفة الغارديان إلى اتهام كبير مستشاري جونسون ببناء شبكة من الجواسيس لمعرفة ما إذا كان أي فرد من إدارة رئيس الوزراء يرتبط بعلاقات ودية مع الصحافيين يمكن من خلالها تسريب الأخبار.
سبق وأن عبر نيك روبنسون كبير مراسلي هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” السابق في مقر 10 داوينغ ستريت عن مخاوفه بالقول “لقد كان هناك دائما توتر بين الصحافيين والسياسيين بحكم رغبتهم في السيطرة على وسائل الإعلام وإخضاع المراسلين لخطابهم السياسي”.
ليتخيل القارئ العربي بأننا نتحدث عن المثال البريطاني الديمقراطي الأول في العالم، ورئيس الوزراء بوريس هو صحافي سابق، تدرج في عمله بأكثر من مطبوعة، قبل أن يصل إلى مرحلة السياسي الإشكالي. ويفضل معاملة الصحافيين بكل هذا الازدراء، فكيف هو الحال في الأوساط السياسية العربية.
بالأمس وجهت أمل كلوني، المبعوثة الخاصة لحكومة المملكة المتحدة لحرية الإعلام، انتقاداتها لدونالد ترامب متهمة إياه بأنه يحبط كل خططها الطموحة لمكافحة قمع وسائل الإعلام على مستوى العالم، في المقابل لم تتطرق أمل لوضع الصحافة في بلدها بريطانيا!!
وتساءلت كلوني “إذا أصبح قادة العالم أكثر اتحادا وأكثر ابتكارا في إيجاد طرق لإسكات الصحافة، ألا ينبغي لنا نحن باعتبارنا المدافعين عن الصحافة أن نفعل الشيء نفسه”. من دون أن تجد من يسألها إن كان بوريس جونسون معنيا بمثل هذا الكلام!