الحبيب الأسود يكتب:
حكومة السراج وحلم الحرب الباردة في ليبيا
تثبت دعوة وزير داخلية حكومة الوفاق الليبية التي يقودها فايز السراج، فتحي باشاغا، الولايات المتحدة إلى إقامة قاعدة عسكرية في بلاده للتصدي لما وصفه بالتغلغل الروسي في أفريقيا، بما لا يدع مجالا للشك، أن حكم الميليشيات في طرابلس دخل مرحلة السقوط على جميع الأصعدة بما فيها العسكرية والأخلاقية.
وتظهر هذه البوادر من خلال ما وصلت إليه الواجهة السياسية لحكومة الوفاق من تخبط سياسي وضعها في حالة الاستدعاء الدائم للتدخل الأجنبي دون أي فهم لطبيعة التوازنات الإقليمية والدولية، ودون إعطاء اعتبار للشعب الليبي الذي سيبقى على أرضه بعد أن تمر كل هذه الظروف والوقائع والأزمات، ليفتح كتاب الوجوه، ويحدّث الأجيال القادمة عن مسلسل الخيانات الذي تعرضت له بلاده في سنوات عجاف، سقطت فيها القيم وانهارت المبادئ، وبات فيها الاعتماد على الإرهابيين والمرتزقة ورهن السيادة الوطنية في يد الأجنبي، عنوانا لما يسميها السراج وميليشياته بمشروع الدولة المدنية الديمقراطية.
وتمثل دعوة باشاغا في الواقع استدراجا لأجواء الحرب الباردة في ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستجداء لصراع داخل ليبيا بين روسيا والولايات المتحدة. ومحاولة لإقناع العالم بأن شرق البلاد في يد الروس، ما يتطلب توازنا استراتيجيا بجلب قاعدة أميركية إلى غربها، وما يعني بشكل آخر التسليم ببناء قاعدة روسية في المنطقة الشرقية.
يهدف باشاغا من خلال توصيات أنقرة، إلى أن تكون طرابلس مدارا للتحالف التركي الأميركي المراد تجييره خدمة لمشروع جماعة الإخوان المستعدة للتفريط نهائيا في سيادة البلاد من أجل التمسك بمقاليد سلطة منفرطة بسبب غياب شرعية الشارع، وضمن مخطط مرتبط بتحولات الوضع الإقليمي، وغير بعيد عما يجري في سوريا، وما يحاك بدول أخرى، فالإخوان وأردوغان وحلفاؤهما في المنطقة لا يزال لديهم إصرار على توسيع دائرة مشروع ما سمي بالفوضى الخلاقة لتحقيق طموحاتهم، وهم يعتبرون أنه كلما زادت الفوضى كلما ارتفعت أسهمهم نحو المزيد من التغلغل في الدول والمجتمعات.
بعد الحرب العالمية الثانية أنشأت الولايات المتحدة في طرابلس أكبر قاعدة لها آنذاك في العالم، وأطلقت عليها في العام 1945 اسم قاعدة ويلس العسكرية التي تحولت بعد فترة قصيرة إلى ما كان يسمى بأميركا المصغرة على ضفاف المتوسط، حيث كانت تضم 4600 أميركي، وكانت لها أهمية كبرى على الصعيد الإقليمي، سرعان ما تراجعت في عيون واشنطن خلال عقد الستينات مع تطور الصواريخ النووية.
إلا أن القاعدة المذكورة استمرت كمركز مهم للتدريبات، وفي 11 يونيو 1970 فرضت السلطات الجديدة التي جاءت للحكم بعد الإطاحة بالنظام الملكي في سبتمبر 1969، على الأميركان إجلاء القاعدة قبل أن يتم تغيير اسمها إلى قاعدة عقبة بن نافع الجوية ثم إلى قاعدة معيتيقة الجوية نسبة إلى طفلة ليبية تقطن بجوار القاعدة ماتت إثر سقوط طائرة أميركية فوق منزلها.
حاليا تحولت تلك القاعدة إلى مجمع مدني وعسكري، فيه مطار للرحلات المدنية بعد إحراق مطار طرابلس من قبل ميليشيات فجر ليبيا في صيف 2014، وكذلك إلى سجن كبير يدار من قبل ميليشيا قوة الردع الخاصة، وجناح عسكري لسلاح جو الميليشيات ومراكز للتحكم والسيطرة تحت إشراف تركي مباشر.
وما جاء على لسان فتحي باشاغا، هو محاولة لإغراء الأميركان بالعودة إلى تلك القاعدة بعد أن غادروها قبل 50 عاما، لكن الموضوع لا يقف عند هذا الحد، فحكومة الوفاق ومن ورائها جماعة الإخوان تحاول استدراج واشنطن للاستقواء بها سواء على الجيش الوطني وعلى الشعب الليبي، بدعوى مواجهة التغلغل الروسي، في إقرار بفشل مشروع الاستقواء بالحليف التركي ومرتزقته، وخاصة مع بدء المهمة الأوروبية الجوية والبحرية لفرض قرار حظر توريد السلاح والذخيرة للبلاد، وفي محاولة لدفع الأميركي لدعم التركي في طرابلس تحت غطاء تحالف يتحدى الأوروبيين.
لكن المفروض على باشاغا أن يدرك أن الولايات المتحدة لا تحتاج لإنشاء قاعدة في ليبيا، وهي التي لديها قواعد عدة في دول المتوسط على مرمى حجر من طرابلس، وخاصة في إيطاليا وتركيا واليونان، ولها أساطيلها المتحركة أمام السواحل الليبية ومنها الأسطول السادس، ولديها القدرة على استعمال قواعد عدة عندما تريد، لكن أن يطلب من واشنطن التكرم بإنشاء قاعدة في بلاده، ففي ذلك حالة من الإذلال التي لا تدل إلا على رغبة في تقسيم ليبيا وتحويلها إلى ساحة لصراع دولي، يعتقد الإخوان وأمراء الحرب أنه بإمكانهم الاستفادة منه لتأبيد نفوذهم في طرابلس.
في ديسمير 2015 أفرز اتفاق الصخيرات مجلسا رئاسيا غير منتخب ومشكوكا في آليات وجوده و يفتقد حاليا إلى نصف أعضائه، ما أسقط عنه شرعيته، وتم تشكيل حكومة الوفاق التي لم تحصل على ثقة البرلمان في مناسبتين، وبات تكليف أعضائها يعتمد على التفويض، لا على التزكية البرلمانية، ما يجعلها تنشط خارج الأطر الدستورية والقانونية ودون شرعية شعبية، ومن بين أعضائها فتحي باشاغا الذي جيء به إلى الحكم ضمن دائرة المغالبة الميليشياوية كونه ينتمي إلى مدينة مصراتة، والذي يعلن اليوم عن دعوته الولايات المتحدة إلى إنشاء قاعدة في منطقة نفوذ الميليشيات.