مصطفى النعمان يكتب:
كيف ستنتهي الحرب في اليمن؟
حين بدأت “عاصفة الحزم” فجر السادس والعشرين من مارس 2015 كانت المفاجأة صاعقة لمن أرادها ولمن عارضها، وقلّة توقعوها حلا ناجعا للمخاوف التي اندلعت بسببها. ولمدة شهرين كاملين لم يتوقف القصف الجوي على كل المواقع العسكرية داخل العاصمة صنعاء وخارجها. كما تعرضت منشآت مدنية كثيرة للتدمير إما عن طريق الخطأ أو لاعتبارها هدفا يمكن استخدامه لأغراض عسكرية أو يسكنها الرئيس الراحل علي عبدالله صالح وأفراد أسرته والقيادات العسكرية المعروفة أو تقطنها قيادات من جماعة أنصار الله.
بعد أشهر قليلة من بدء الحملة الجوية وتحديدا في الربع الثالث من العام 2015 كان واضحا لدى العارفين بالتركيبة اليمنية، قبليا وسياسيا وعسكريا، أن الحرب لن تنتهي بالسرعة التي تمناها مخططوها، ولكن قيادة التحالف لم تكن قد وصلت إلى نفس هذه القناعة، ولست متأكدا من موقع الخلل، ولكن يقيني هو أن المعلومات التي بموجبها تم تحديد الموعد والمواقع لم تكن، على أقل تقدير، دقيقة.
هناك أيضا ملاحظة أن قرار الحرب لم تعلم به القيادة اليمنية قبل شن الحملة الجوية في 26 مارس 2015، وهذا بدوره كان مؤشرا خطرا على أن التحالف لم يكن له سند على الأرض يستطيع الاستفادة من حالة الإرباك التي حدثت في صفوف القوات التي استهدفها القصف، وهذا أدى إلى قدرتها على امتصاص الصدمة العنيفة.
بدأت الرياض في التحشيد والتجنيد بصورة عشوائية دون خطة متفق عليها مع قيادة الدولة اليمنية التي لم تشارك في الأمر، وكانت اعتراضاتها خجولة على تغييبها وعدم إشراكها في تحديد وتخطيط مسار العملية العسكرية، ولم يحدث أي لقاء بين القيادتين لبحث الخطط العسكرية والسياسية ودراسة تطورات سير المعركة وكيفية التعامل مع المتغيرات وتحولات الأوضاع على الأرض.
لم تبذلْ القيادة اليمنية أي جهد للتواجد المؤثر من غرفة العمليات العسكرية إلا من خلال تحديد بعض المواقع التي لم تكن كلها أهدافا عسكرية، وتعاملت باسترخاء وبدت مستمتعة برغد العيش الذي وفرته الرياض لكل من لحق بالرئيس عبدربه منصور هادي وأسرهم، وكان مشهدا عجيبا أن نرى فنادق الرياض الفاخرة ممتلئة بكل الطبقة السياسية الهاربة من صنعاء وأطفالها، وكان مثيرا للسخرية أن مجموعة كبيرة منهم كانت تتهيأ منذ البداية لإقامة طويلة فألحقت أبناءها بالمدارس، وتمكن الميسورون سريعا من تملّك عقارات في دول عربية، ومنهم من فضل الابتعاد عن المشهد مع التمتع بمزاياه.
مع مرور الوقت صار واضحا أن تجربة التدخل المصري في اليمن ستتكرر! وللتذكير لمن يجهل تفاصيل تلك الحقبة فقد بلغ عدد الجنود المصريين المقاتلين في اليمن 70 ألف جندي وكانت نفقاتهم تبلغ المليون جنيه إسترليني يوميا لأن كل مستلزماتهم كانت تصل من مصر جوا وبحرا، وكانت حرب استنزاف انعكست تبعاتها الكارثية على مصر في حرب 5 يونيو 1967.
لم تكن لدى قيادة الشرعية أي خطط بديلة ولا أنشأت لجانا خاصة بها لتحديد الأولويات، ولم تعمل على حشد الناس في الداخل خلف هدف واحد سوى شعارات خشبية وضجيج إعلامي ومواقع إلكترونية ومحطات تلفزيونية لا يتابعها المواطن ولا يهتم بها. ثم زادت الأخطاء والارتباك بالخلاف المبكر بين الرئيس عبدربه منصور هادي ونائبه رئيس الحكومة خالد بحاح، بين شك الأول في أن بحاح استدعي لأداء مهمة مؤقتة سيتنازل هادي بعدها عن صلاحياته كاملة حيث كان يشاع عن تدهور صحته، وخشية غيابه عن المشهد لأي طارئ يحدث له فيتحول الأمر إلى رئيس مجلس النواب في صنعاء. في نفس الوقت كان بحاح يستعد مبكرا وسريعا وعلانية لتولي الموقع الأول، ولم يكن يخفي هذا الأمر وصار يتصرف بناء عليه. هذا وتّرَ العلاقات بين الرجليْن وندُرت لقاءاتهما، ولم تفلح المساعي السعودية في معالجة الموقف والتخفيف من حالة الاستقطاب التي حدثت بين هادي وبحاح.
هناك عوامل أدت إلى المزيد من التشويش على العملية العسكرية:
- انقطاع التواصل اليومي بين المسؤولين السعوديين واليمنيين عدا ما يتعلق بطلب المساعدات المالية.
- عدم وجود خلية عمل مشتركة إلا في إطار صرف مساعدات نقدية.
- انشغال من فروا إلى الرياض بترتيب أوضاعهم الخاصة وسعي الكثيرين للحصول على مواقع وظيفية تؤمن حياتهم مع أسرهم.
- ارتباك القيادات العسكرية والأمنية اليمنية وجهلها بما يحدث على الأرض وغياب المعلومات الحقيقية الموثقة من الداخل.
- الإصرار على استخدام نفس الأدوات التي تسببت بالوصول إلى الحالة الراهنة، ثم استرجاع الأسماء التي كانت قد وُضعت في أرشيف المساعدات السعودية القديمة، ولم تكن الأجهزة السعودية تتابع التحولات الاجتماعية والقبلية داخل اليمن.
- الانقطاع بين أجهزة الدولة وتحول كثير من كبار المسؤولين إلى راغبين في إقامات دائمة ولأبنائهم عن بلدان يلجأون إليها.
- تركيز كل القرارات وتسيير الأوضاع الطارئة في يد مكتب الرئيس الذي كان بدوره منحصرا وحكرا في يد النجلين ومساعديهما، أحمد بن مبارك ثم عبدالله العليمي، ومجموعة صغيرة للغاية من نفس المنطقة والعائلة.
كل هذه العوامل وغيرها كثير ما كان لها أن تكون محفزات استعادة دولة فرت كل قياداتها، وليس في هذا تبرئة للتحالف الذي لم يُبلغ الشرعية منذ اليوم الأول بمهامها وواجباتها ومسؤولياتها الأخلاقية والوطنية، بل إنه أسرف في الإنفاق عليهم وتوفير مقتضيات حياة مريحة هانئة آمنة.
ما حدث بعد مرحلة إخراج الحوثيين من الجنوب مكشوف للجميع، فلم تتمكن الحكومات المتعاقبة من تحقيق أي إنجاز يحسب لها، وليس من الأسرار أن سياسة “الرديات” التي كانت جارية في عهد الرئيس الراحل بقيت سارية فتضخمت فاتورة المرتبات للعسكريين والأمنيين ونفقاتهم التشغيلية، وإلى جانب ذلك حدث تضخم مهول في أعداد المنضمّين إلى كشوفات المرتبات، فكل من التحق بالشرعية طالب بدرجة وظيفية ومسمى وظيفة، ولم يتنازل أحد عن هذا الحق، بل اعتبره تعويضا مناسبا لالتحاقه بها وفراره من البلاد. وصارت هذه الفاتورة المالية المتضخمة عبئا ثقيلا لم يتحمله التحالف طويلا، ورمى بأثقاله على كاهل جهاز الشرعية المهترئ وغير الكفؤ وغير المؤهل للقيام بأي من واجبات “استعادة الدولة” و”دحر الانقلاب” و”قطع يد إيران”.. وضخم الفاتورة كل من اعتبر نفسه مناضلا في ساحات التغيير، أو مشاركا في الحوار الوطني الذي كان هو أيضا مصدر رزق ودخل يومي للكثير منهم.
بمرور الأيام تقلص عمل الجهاز الحكومي وصار مركزا في نجلَيْ الرئيس ومدير مكتبه ونائبه، رجل الأعمال، وكتبة لا وزن لهم سياسيا ولا اجتماعيا، وعلى بعد كان نائب الرئيس الذي صار مجردا من كل الصلاحيات عدا الإشراف المالي على عدة منافذ برية وعدد من الألوية العسكرية الوهمية، وأيضا هناك مجلس النواب الذي لا يتمكن من أداء أي مهمة دستورية عدى تأمين مكافأة أعضائه ويتلهى بزيارات خارجية، ثم رئيس حكومة لا يجيد إلا إصدار التوجيهات والتصريحات وبناء المصفوفات. أما الوزراء فلا مقر لهم ولا عمل يؤدونه سوى البحث عن مؤتمرات يتوسلونها، ناهيك عن الأحزاب التي صارت قياداتها تستجدي وظيفة براتب مجز ودرجات مالية لأتباعهم وأبنائهم.
اليوم بعد أن اتضح العجز الفاضح لكامل جهاز الشرعية وعدم قدرته على الإنجاز فلا طائل من الحديث عن إعادة هيكلة أو تشكيل جبهات وتحالفات من ذات الطفيليات التي تعتاش من نهب المال العام، بل صار لزاما البحث عن مخرج من هذه الدوامة التي سقط فيها الوطن بسبب هذه الشرعية.
إنه من غير المعقول التعويل على نفس الكيان الذي ألقى بالوطن في أتون حرب مدمرة بسبب تراخيه وإهماله وتكاسله عن القيام بواجباته الوطنية والدستورية، ومن هنا فإن أولى متطلبات انتهاء الحرب هو قيام تكتل وطني يشمل كل من يؤمن بالشرعية الدستورية ولم يكن منخرطا في فسادها وعبثها، يبحث في أسس السلام القادم المبني على:
- الإيمان بأن اليمن يحكمه دستور قائم هو المرجعية لكل نشاط سياسي واجتماعي وهو الذي يحمي حرياتهم ويحدد حقوق الناس وواجباتهم.
- إن الدولة هي صاحبة الحق الوحيد في امتلاك السلاح واستخدامه.
- إن كافة اليمنيين سواسية أمام الدستور والقانون دون النظر إلى مذهب أو سلالة أو طائفة أو منطقة.
- إن الانتخابات هي الحامل الوحيد لكل من يرغب في تولي السلطة.
- إن اللجوء إلى القوة لحسم الخلافات السياسية مرفوض، ولا يمكن القبول به تحت أي ذريعة.
- إن اليمن جزء من إقليمه الأقرب ولا يمثل تهديدا على أي من دوله.
- احترام السيادة الوطنية والالتزام بكافة الاتفاقات التي تم إقرارها بالتراضي وبموجب الإجراءات الدستورية.
هذه الأفكار ليست أحكاما وتحتاج إلى تهذيب وتشذيب وإضافة وحذف من كل من يرى فيها أساسا لعملية سياسية سلمية تهدف إلى وقف الحرب والعودة إلى الحوار.