فاروق يوسف يكتب:

زينة عاصي رسامة بيروت التي تخلت عن أوهامها

تُرسم المدن على سطوح اللوحات كما لو أنها تُكتشف من جديد. فالمدينة بالنسبة إلى أبنائها ليست معلما سياحيا. ما لا يُرى منها هو الجوهر الذي يجذب الرسامين من أبنائها إليها، أصواتها، روائحها وإيقاع الزمن فيها، بطيئا كان أم مسرعا.

لا يزال درس أمين الباشا ماثلا أمامنا وهو ابن بيروت ورسامها الذي عاش أزمنة تحولها بعمق وحميمية وبراءة بحيث كانت طريقته في الرسم تتغير كلما تغيرت بيروت. فهي مرآته الشخصية.

غير أن بيروت الباشا هي ليست بيروت زينة عاصي التي ولدت عشية الحرب الأهلية، التي إضافة إلى أنها محت الجزء الأكبر من وجه بيروت الخارجي فإنها أخذت جزءا لن يُستعاد من حيويتها الجمالية. ذلك الجزء الذي يلامس روحها وينعشها بخياله.

بيروت الحدس لا تُرى

بيروت التي ترسمها عاصي هي ابنة زمنها


أن يُقال لعاصي “هذه ليست بيروت” فهو كلام ليس له وقع حقيقي. ذلك لأن الرسامة لا تعرف إلا هذه الـ”بيروت” التي ترسمها. ما من بيروت أخرى حتى وإن تدخل الخيال في صنعها. سيكون من الصعب فك ارتباط بيروت اللامرئية بما انتهت إليه من صفات، أقل ما يُقال عنها إنها لا تأسر العاطفة إلا عن طريق الرثاء.

تحب الفنانة مدينتها غير أن ذلك الحب لن يدفع بها إلى الاستسلام لموقف يغلب عليه المديح لجمال صار نوعا من الذكرى. وقد يكون ذلك مناسبة لخلق أعمال فنية جميلة في محاولة لتعويض ذلك الحضور الجمالي الذي طواه النسيان واحتفت به الحكايات الشفاهية.

بيروت التي ترسمها عاصي هي ابنة زمنها مثلما الرسامة تماما. تلك مدينة عيش مباشر وحظوظ مبعثرة ومصائر متقاطعة وأحلام ضائعة وخيبات وهويات مقطوعة الجذور وألغام تحت الجلد وضجيج استثنائي وزحام لأجساد يطحنها المجهول الذي استولى على فكرة المدينة نفسها.

لقد تسللت من صورة المدينة كما رأتها إلى حركة ناسها التي أشعرتها أن للمدينة مستويات مختلفة لا في طريقة النظر إليها وحسب، بل وأيضا في طريقة التفكير فيها. فالمدينة ناسها الذين يتغيّرون كل لحظة. ذلك ما دفعها إلى أن تكف عن الوصف. فصارت تتبع حدسها أكثر مما تتماهى مع بصرها.

من أجل احتواء الفوضى

الرسامة اللبنانية لا ترى المكان معزولا عن حركة الناس 

ولدت عاصي عام 1974 بطرابلس. درست الرسم في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة ببيروت. أقامت أول معارضها الشخصية عام 2008 في صالة “ألوان” ببيروت وكان بعنوان “مدينة وأهلها”. أما آخر معارضها فقد أقامته عام 2018 في القاعة نفسها وحمل عنوان “المهربون”. بينهما أقامت عشرة معارض توزعت بين بيروت ودبي والمنامة.

عاصي التي تعمل وتعيش ما بين بيروت ولندن تمارس إضافة إلى الرسم النحت وفني التركيب والفيديو. وهو ما سمح لها أن تجسد بطريقة مفصّلة علاقتها بالمكان الذي لا تراه معزولا عن حركة الناس والتغيرات التي تطرأ على حياتهم بتأثير ظروف مختلفة حتى لو شاؤوا مقاومتها عن طريق الحيلة. فالجانب الأهم إنما يقع في التأثير الذي تمارسه العقائد على الواقعين الثقافي والاجتماعي وليس في ما يشهده المكان من تبدل في مشهديّته الخاضعة لمنطق الحذف والإضافة.

تبحث عاصي عمّا لا يُرى وتكون الفوضى واجهته. وما يثير الإعجاب فيها أنها بالرغم من عدم استغراقها في الرسم الأكاديمي فإنها رسمت مشاهد المدينة والصور الشخصية والطبيعة الصامتة إضافة إلى أنها اقتحمت التجريد بطريقة لم تبتعد فيه عن أسلوبها.

رسمت المدينة بجسور مهدمة في محاولة للإيحاء بما تتعرض له من هدم وحين رسمت الصور الشخصية فإنها تماهت بجرأة مع النمساوي إيغون شيلا. أما تجربتها في رسم الطبيعة الصامتة “الجامدة” فإنها كانت مساحة للتجريب في طريقة التفكير في الشيء بدلا من نقل صورته. لقد عكست تلك التجربة قدرة الفنانة على تفكيك الأشياء وإعادة تركيبها. وفي التجريد تستحضر الرسامة مخطط المدينة كما لو أنها تراها من الفضاء. المدينة نفسها من غير بشرها. الرسامة هنا تستلهم زمنا مفقودا هو زمن الصمت.

غالبا ما تلجأ إلى حيل تقنية تجعلها قريبة من المعاني التي تودّ الوصول إلى استخراجها. لذلك تلجأ إلى الكولاج من أجل تغطية سطح اللوحة ومن ثم العمل على ذلك السطح الذي أُعدّ ليكون مسرحا لتفاعلات، سيكون من الصعب فصل بعضها عن البعض الآخر. فالمدينة هي مشهدها كاملا.

كما في لوحاتها تلجأ عاصي في أعمالها النحتية إلى عنصر التجميع الذي هو أشبه بالكولاج، لكن من خلال استعمال الكتل التي يتراكم بعضها إلى جانب البعض الآخر أو فوقه في مشهد تفاعلي ينتهي إلى تشكيل كتلة واحدة، غير أنها كتلة متنافرة ومتشظّية الاتجاهات بسبب العشوائية التي يتميز بها المشهد الذي تظهر من خلاله.

الغريب في المدن الغريبة


فنانة تعلي من شأن الفكرة على حساب الشكل 


تلك هي المدينة مجسدة كما لو أنها قلعة يمكن اختراقها من جهات عديدة. ذلك لأنها تفتقر إلى التماسك. هي كتلة مرمية في فراغ لا نهائي. وما من شيء يوحي بقدرتها على أن تقاوم أو تصمد. إنها مُركبة مثل لعبة أطفال، يمكن أن تُهدم ليُعاد تركيبها بطريقة مختلفة.

وفي ذلك أن الفنانة تعلي من شأن الفكرة على حساب الشكل الذي يبدو كما لو أنه إجراء توضيحي. لذلك تبدو منحوتات عاصي أقرب إلى الفن المفاهيمي منه إلى فن النحت الذي يعتمد على تماسك الشكل القائم على علاقة التحام بين الكتلة والفراغ. صحيح أن النظر إلى تلك المنحوتات يجلب الكثير من المتعة غير أنها متعة تزول في مقابل الفكرة التي تترسخ.

المدينة واجهاتها. تلك فكرة مجنونة وغير واقعية. غير أنها كذلك في التفكير العملي الذي لا يعنى بالمصائر البشرية التي تختبئ تحت السطح. ذلك ما دفع بالفنانة إلى أن تتصدى لغربة الإنسان في عالم متصالح مع نفسه بالرغم من تفككه على حساب القيم الإنسانية. تضع الإنسان في الأعلى، غير أنه الغريب الذي طردته المدينة.

عاصي الرسامة والنحاتة وصانعة أفلام الرسوم المتحركة ابنة جيل خرج من رحم الحرب الأهلية. ذلك جيل لا صلة لمزاجه بتقاليد الفن كما عرفه المحافظون أو المتمردون من أجيال، كان فيها لبنان يبشر بسعة صدره وإقباله على الحرية المطلقة.

لقد قُدّر لذلك الجيل أن لا يرى شيئا من أطراف الحكاية الجميلة. فكان عليه أن يحتوي الجمال الحركي الذي يصنعه الشارع. وهو جمال لم يكن ليحتفى به، بالرغم من أنه هو الآخر قائم على الأوهام، غير أنها أوهام جارحة ومؤلمة وقد تكون بعض الأحيان مملة.

ولأن الفن في العالم قد تغير فقد التقى ذلك التغير بالتحول الذي شهده المزاج الفني اللبناني وهو ما عبّرت عنه زينة عاصي من خلال أعمالها التي تكتظ بالأسئلة المصيرية. ذلك لأن مفترق الطرق سيستغرق وقتا طويلا لكي يؤدي إلى مرحلة، يمكن من خلالها أن تتضح الصورة.

عالجت عاصي موضوع المدينة وهي تريد التلصص على إنسان تلك المدينة المسحوق والمهدم والمقيم في أسوأ لحظات تعاسته. وهي إذ تتعامل بشجاعة مع فكرة الهرب فإنها تضع إصبعها على جرح مجتمعات وقعت فريسة بين أيدي قطّاع الطرق. الفن بالنسبة إلى زينة عاصي وجيلها من الفنانين والفنانات اللبنانيات هو فعل مقاومة. وهو ما يعيد إلى الفنان كرامته التي فقدها بسبب شبهات السوق وصفقاته.


عاصي تتلصص على إنسان تلك المدينة المسحوق والمهدم والمقيم في أسوأ لحظات تعاسته