كرم نعمة يكتب:
يصعب على الصحافة التفكير بغيره
عرضت محررة شؤون القراء في صحيفة الغارديان إليزابيث ريبانز، إحصائية لعدد المرات التي تكرر فيها ذكر اسم فايروس كورونا على مدار أسبوع واحد، فوجدت الرقم مهولا لم يتكرر مع أي اسم لشخصية سياسية أو رياضية أو فنية أو حدث سياسي أو صحي سابق، مع أن نفس الكلمة لم تذكر في الصحيفة نفسها أكثر من 22 مرة خلال عشرين عاما.
وفي دراسة المحتوى رأت ريبانز أن تسعين صحافيا كتبوا عن الفايروس الجديد بطريقة أو بأخرى خلال يوم الجمعة الماضي، في إشارة إلى استحواذ التغطية عن انتشار كورونا على حساب بقية الاختصاصات بما في ذلك السياسة والأعمال والرياضة والنقل والثقافة والتعليم والغذاء. حتى وصل الاستحواذ إلى زاوية عمود الشطرنج. لكن مهلا، أليست الأوبئة في التاريخ أحداثا سياسية شكلت مدونة التغيير الكبرى!
يمكن لكل قارئ أن يستعير فكرة إليزابيث ريبانز، ويمارس لعبة الحساب مع أي موقع إلكتروني أو صحيفة ورقية ويعد كم مرة ورد “كورونا” في المحتوى المنشور، ويمكن أن أبدأ بنفسي وأعد كلمات كورونا الواردة في يوم واحد بصحيفة العرب اللندنية. “أيضا كم مرة سترد كورونا في هذا المقال”!
ومهما كان عدد الكلمات فهو مدعاة لدراسة المحتوى وتحليل التداعيات على أهمية الجوهر. يمكن أيضا أن نتأمل كم قطعة محتوى فيديوي وصوتي تنتج يوميا عن المحاذير والقصص المتعلقة بالوباء.
ولم تعد الفكرة في متابعة ما يهم القراء أو صناعة خطاب لاختراق العقول، بقدر ملاحقة الأخبار المتصاعدة والمستمرة عن انتشار الفايروس، وإن كانت مكررة ومتشابهة. لذلك تصف مديرة مكتب صحيفة الغارديان في بكين ليلي كو، الأمر بواحد من أكثر القصص أهمية وتعقيدا وصعوبة في تناولها. في المقابل يتفق جميع الصحافيين على المسؤولية العالية في نشر المعلومات بشكل صحيح.
ثمة اختبار على درجة من الأهمية أمام إدارة تحرير الصحف وهي تراكم طبيعة أخبار كورونا المفتوحة والمتداخلة وسريعة التغيير، على طاولتها. كيف لها أن توازن متطلبات النشر بين المحلي والعالمي، وكم تبدو الحاجة للتفكير في القصص الأخرى التي تشغل المجتمع، مع أنه من الصعوبة أن تعطي وسائل الإعلام أهمية أكثر لغير أخبار انتشار الوباء. وقتها ستبدو كمن هو عديم الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية لعدم إيلائه أخبار انتشار الوباء الأهمية القصوى.
خذ مثلا ما طالب به روبرتوبو ريوني المتخصص بعلم الأحياء الدقيقة والفايروسات بجامعة ميلانو، في تصريح لوكالة الأنباء الألمانية، بعدم الاستهانة بالخطر، قائلا “لقد استهانت إيطاليا لمدة أسبوع، وقال البعض عن الأمر إنه مجرد أنفلونزا، وقال طبيب، بطريقة غير لائقة تماما، إن الأمر سينتهي في غضون أسبوعين”.
كذلك تبدو رسالة العالم الإيطالي صحية وسياسية في آن، لكنها تمس أيضا وسائل الإعلام وتذكرها بدورها في حرية تبادل المعلومات والتنبيه بخطر انتشار الفايروس.
مثل هذا الأمر دفع جون نوتون أستاذ المعرفة التكنولوجية في الجامعة المفتوحة في دبلن إلى القول “نحن لا نكافح وباء فقط، نحن نكافح وباء الأخبار المزيفة التي تنتشر بشكل أسرع وأسهل من هذا الفايروس نفسه، مع أنها بنفس درجة الخطورة”.
وحذر نوتون مؤلف كتاب “من غوتنبرغ إلى زوكربيرغ: ما تحتاج معرفته حقا عن الإنترنت” وسائل الإعلام من التعامل المفرط مع هذه الأخبار لأنها تجعلنا نتجه إلى طريق مظلم لا يؤدي إلى أي شيء سوى الانقسام والتنافر.
بالنسبة لنا كصحافيين، الكتابة تعني صناعة أفكار جديدة لتجنب الوقوع في فخ التكرار، لكن الأفكار كلها تؤول إلى كورونا اليوم، فمن يصنع فكرة جديدة من دون الإصابة بقلق كورونا؟
هناك هلع إخباري وذعر يغذي نفسه في وكالات الأنباء، إذ لم تعد تولي أهمية لبقية الأخبار، بعد أن فقدت أهميتها في نظر الرأي العام المتلهف لمعرفة آخر التطورات الحاصلة على انتشار الفايروس ومحاولات القضاء عليه.
أحد الأشياء التي تجعل هذا الوباء مختلفا عن سابقيه هو هيمنة وسائل الإعلام الاجتماعية في عالم اليوم. جاءت واحدة من أكثر التحليلات إدراكًا لما يحدث من كيت ستاربيرد من جامعة واشنطن، وهي خبيرة رائدة في المعلوماتية المتعلقة بالأزمات بدراسة كيفية تدفق المعلومات في حالة الأزمات، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
تجادل ستاربيرد بأن الأزمات تولد دائما مستويات عالية من عدم اليقين، الأمر الذي يؤول بدوره إلى القلق. وهذا يقود الناس إلى البحث عن طرق لحل عدم اليقين وإنهاء القلق من خلال البحث عن معلومات بشأن التهديد المحتمل. إنهم يفعلون ما يفعله البشر دائما، محاولين فهم موقف مربك يمرون به.
في فترة ما قبل الإنترنت، كان يتم تنسيق المعلومات من قبل حراس البوابة التحريرية والمصادر الحكومية الرسمية. ولكن الآن كل شيء يسير كما يود المستخدمون.
قد تكون بعض المعلومات التي تم نشرها من قبل النشطاء صحيحة، لكن الكثير منها لم يكن كذلك. هناك جهات فاعلة سيئة تتلاعب بهذه المنصات لتحقيق مكاسب اقتصادية كما يرى جون نوتون، لتسويق نوع من السلع بعينها أو لسبب سياسي أو أيديولوجي.
لسوء الحظ يقوم الأشخاص بإعادة نشر الروابط والأخبار دون النظر إلى مصدرها ومدى أهمية المعلومة وجديتها وتأثيرها، وحتى النكات التي تم تصورها ببراءة يمكن أن تؤدي إلى انتشار الذعر.
الأطباء يرون أن الطريقة الوحيدة لإبطاء انتشار الفايروس هي منع الناس من التجمع، لعدم وجود اللقاح في الوقت الحاضر.
وفي عالم الإنترنت، ربما نحتاج إلى شيء مماثل. ماذا عن القليل من الانضباط الذاتي؟ عندما لا تميل إلى مشاركة مقتطف من المعلومات حول كورونا لست متأكدا من صحته، ستعمل على إبطاء انتشار الفايروس، مثلما تمنع انتشار الأخبار الكاذبة.