خير الله خير الله يكتب:

الهدف كان العراق وليس النظام

في مثل هذه الأيّام، كان الجيش الأميركي يزحف، انطلاقا من الجنوب، في اتجاه بغداد التي دخلها في التاسع من نيسان - أبريل 2003. دخلت المنطقة يومذاك مرحلة جديدة، هي مرحلة بداية الزلزال العراقي الذي لا تزال تفاعلاته مستمرّة إلى اليوم على غير صعيد، بما في ذلك العراق نفسه وكلّ المنطقة المحيطة به، خصوصا منطقة الخليج العربي ومنطقة الهلال الخصيب الممتدة من العراق إلى فلسطين، مرورا بسوريا ولبنان.

شاهد العالم التغييرات التي حصلت على الأرض منذ العام 2003. تأكّد العالم وقتذاك أن إيران كانت الشريك الفعلي في الحرب الأميركية على العراق، خصوصا بعدما تبيّن أنّها خرجت، أقلّه في المدى القصير، الطرف الوحيد المنتصر في هذه الحرب التي قُتل فيها آلاف الجنود الأميركيين وكلّفت الخزينة الأميركية تريليونات الدولارات. (يساوي التريليون ألف مليار دولار).

ما يثير الحيرة إلى اليوم، لماذا صدر القرار الأميركي باحتلال العراق في أعقاب “غزوتي واشنطن ونيويورك” اللتين شنهما تنظيم “القاعدة” الذي كان يتزعّمه أسامة بن لادن في الحادي عشر من أيلول - سبتمبر 2001؟

لم تكن للعراق، الذي كان تحت حصار وعقوبات دولية بسبب مغامرة احتلال الكويت صيف العام 1990، أي علاقة من قريب أو من بعيد بـ”القاعدة” وأسامة بن لادن الذي كان في أفغانستان. بين الإرهابيين الـ19 الذين شاركوا في “الغزوتيْن”، كان هناك مواطن لبناني اسمه زياد الجرّاح ينتمي إلى جماعة “فتح – المجلس الثوري” التي يتزعمها صبري البنّا المعروف بـ”أبونضال”. كان “أبونضال” مُنشقّا عن “فتح” وقد ربطته علاقات مشبوهة مع تنظيمات إرهابية ذات مشارب مختلفة، بما فيها “القاعدة”.

قطعا لأي تأويل، تخلّص النظام العراقي وقتذاك من “أبونضال”، الذي قيلَ إنّه “انتحر” في منزله في بغداد. على الرغم من ذلك كلّه، وُجدَ في واشنطن من يربط بين النظام العراقي الذي على رأسه صدّام حسين، و”القاعدة”، علما أن وقائع كثيرة كانت تشير إلى علاقة ما بين “القاعدة” ومجموعات محسوبة على إيران وليس العراق.

منذ اليوم الأوّل لأحداث الحادي عشر من أيلول - سبتمبر 2001، تبرّع مسؤولون في إدارة جورج بوش الابن لتحميل العراق جزءا من مسؤولية “الغزوتين”. طالب بول ولفوويتز، نائب وزير الدفاع الأميركي، في الاجتماع الأول الذي انعقد على مستوى كبار المسؤولين برئاسة جورج بوش الابن بالرد على “الغزوتين” في العراق. كان ذلك الاجتماع في منتجع كامب ديفيد. تولّى كولن باول، وزير الخارجية آنذاك إسكاتَ ولفوويتز مؤكدا له أن لا معلومات لدى الإدارة الأميركية عن أيّ علاقة بين صدّام حسين و”القاعدة”. لكنّ ولفوويتز، أصرّ على موقفه.

بعد انفضاض الاجتماع، سُئل نائب وزير الدفاع، وكان من غلاة المحافظين الجدد في إدارة بوش الابن، عن السبب الذي دفعه إلى التركيز على العراق، علما أن قيادة “القاعدة” في أفغانستان كانت تحت حكم طالبان، أجاب بالحرف الواحد: “زرعت البذور”، أي أنّه أسس لعملية الاجتياح العسكري للعراق. هذا ما نشرته مجلّة “فانيتي فير” في تقرير طويل عن مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001 والقرارات التي اتخذت في تلك المرحلة والتي غيّرت وجه العالم بما في ذلك إجراءات السفر داخل الولايات المتحدة وخارجها.

لا يزال السؤال – اللغز، لماذا قرار اجتياح العراق؟ كان الجواب، وقتذاك، أن لا بدّ من التخلّص من النظام الذي قهر العراقيين. لا شكّ أن النظام العراقي كان دكتاتوريا، ولكن ما الفارق بينه وبين النظام السوري؟ الأهمّ من ذلك، ما الفارق بينه وبين النظام في إيران الذي على يديه دماء مئات الأميركيين، بدءا بعملية نسف سفارة الولايات المتّحدة في بيروت في نيسان - أبريل من العام 1983، ثمّ مقر المارينز قرب مطار بيروت في تشرين الأوّل - أكتوبر 1983 من تلك السنة أيضا؟

أكثر من ذلك، كيف تذهب الولايات المتحدة إلى حرب في العراق في وقت كان جيشها منشغلا بأفغانستان بحثا عن “القاعدة” وقيادييها على رأسهم بن لادن؟ لا تزال أميركا تعاني إلى الآن من حرب أفغانستان التي لم تستطعْ وضع نهاية لها. الدليل على ذلك، أنّها مضطرة في السنة 2020 إلى توقيع اتفاق مع طالبان، وهو اتفاق بطعم الهزيمة. يجد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو نفسه مضطرا هذه الأيام للذهاب إلى كابول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاتفاق مع طالبان التي حمتْ أسامة بن لادن، ووفرت له كلّ ما يحتاجه من أجل الإعداد لـ”غزوتيْ واشنطن”.

إنّه قرار أميركي محيّر بالفعل. لكن الخلاصة التي يمكن الخروج بها بعد كل تلك السنوات التي مرّت على دخول الأميركيين إلى بغداد سعيا لإقامة نظام جديد، وهو ما تبيّن أنّه مهمّة مستحيلة، أنّ الهدف كان العراق وليس النظام. لو لم يكن الأمر كذلك، كيف كان يمكن لدولة مثل الولايات المتحدة، تعتبر القوّة العظمى الوحيدة في العالم، خوض مغامرة من نوع احتلال العراق من دون أن تكون قد أعدّت نفسها لمرحلة ما بعد الاحتلال؟ الأسوأ من ذلك كلّه، أن الطفل كان يعرف أن احتلال العراق بالطريقة التي حصلت كانت تعني تقديم البلد على صحن من فضّة إلى إيران من جهة، والإخلال بالتوازن الإقليمي على كلّ صعيد ومجال من جهة أخرى.

ما استتبع الاحتلال الأميركي كان قيام نظام عراقي غير قابل للحياة، خصوصا في ظلّ تهميش السنّة العرب عن سابق تصوّر وتصميم وإعطاء الأكراد وعودا غير قابلة للتطبيق. مع مرور الوقت، أي مرور سبعة عشر عاما على إسقاط تمثال صدّام حسين في بغداد، بدأ يتكشف أن المطلوب في كلّ وقت كان الانتهاء من العراق. لم يكن النظام والكلام عن امتلاكه أسلحة للدمار الشامل، بينها أسلحة كيميائية، سوى حجج واهية لتحقيق هدف معيّن اسمه العراق.

في 2020، تكتشف أميركا الحاجة إلى العراق الذي عاد يقاوم إيران من منطلق أن النزعة الوطنية العربية ما زالت تجمع بين معظم العراقيين، بمن في ذلك الشيعة. هل باتت واشنطن تمتلك رؤية أكثر وضوحا لما يمكن أن تقوم به في العراق، تفاديا لاستمرار المشروع التوسعي الإيراني الذي بدأت تعرف الآن أنّه موجّه ضدها أصلا؟ الأهمّ من ذلك كلّه هل يمكن إعادة تركيب العراق بعد كلّ هذا التفكّك والتحلّل الذي أصاب النسيج الاجتماعي الذي صار التخلّف من أهمّ ميزاته؟

كلّ ما يمكن قوله، أنّه بات معروفا ما حلّ بالعراق، وما الهدف من احتلاله، لكن السؤال – اللغز ما زال لغزا.