هاني مسهور يكتب:
السوداني الذي سكن عقول الحضارمة
استعمرت بريطانيا مدينة عدن، ضمن عدد من البلدان العربية، وشهد السودان في مطلع القرن العشرين الماضي، حركة تنويرية كان من ضمنها أوسع حركة ترجمة للمناهج التعليمية البريطانية، نتج عنها تأسيس معهد «بخت الرضا» في السودان، الذي عمل على تخريج أعداد كبيرة من المعلمين، كان الساحل الحضرمي تحت حكم السلطنة «القعيطية»، وهي واحدة من أكثر السلطنات استقراراً سياسياً وازدهاراً في فترة وجودها، ومع نزعة السلاطين نحو التعليم واهتمامهم بالتنمية، طُلب من السودان إرسال معلم يؤسس لما يشبه ما تم إنشاؤه في ولايات السودان من معاهد تؤهل المعلمين للقيام بمهام التعليم.
كان إنشاء المدرسة الوسطى في مدينة «غيل باوزير» في هذا النطاق، ساعد السلطنة «القعيطية» على تكوين مجتمع مدني، يخرج من الصراعات القبلية ليتسابق في مجالات أخرى، وهذا ما حدث بوتيرة متسارعة زمنياً، بعد وصول الشيخ القدال باشا إلى المكلا عاصمة السلطنة عام 1939، الذي وضع خطة طموحة، باستقطاب أكبر عدد من الطلبة للمدرسة الوسطى، التي كانت تعد في ذلك الوقت بمثابة جامعة في الوقت الحالي، وكان نظام التعليم فيها داخلياً، ولا يسمح للطلبة بمغادرة المدرسة إلا بعد انتهاء الفصل الدراسي.
بلغ صيت المدرسة الوسطى في «غيل باوزير» مبلغاً واسعاً، فالتحق بها طلاب من العراق والشام والحجاز، وكانت تقدم أعلى الشهادات وفقاً للنظام التعليمي البريطاني، وتخرج فيها العديد من الشخصيات التي لعبت أدواراً سياسية في المشهد السياسي، كأمين عام الحزب الاشتراكي علي سالم البييض، ورئيس وزراء اليمن الجنوبي السابق حيدر أبوبكر العطاس، ورئيس الوزراء السابق فرج بن غانم، غير أن المتتبع لما أنتجته المدرسة الوسطى سيجد أنها أنتجت أجيالاً حضرمية ارتبطت بالسلوك السياسي الليبرالي، ولعل هذا يفسر ظهور خالد محفوظ بحاح، برغم أنه ليس من خريجي المدرسة الوسطى، ولكنه ناتج من نتائج السياق الحضرمي الذي التزم بالتنوير.
في عام 1950، قرر السلطان صالح بن غالب القعيطي تعيين القدال باشا وزيراً للسلطنة، مما شكل وضعاً سياسياً غير مسبوق في تاريخ حضرموت، وتشكل الحزب الوطني من مقادمة حارات المكلا ومثقفيها لمنع القرار السلطاني، وتم تحشيد الجماهير للتظاهر أمام قصر السلطان في العاصمة المكلا، ومع احتشاد الجماهير حدثت حادثة إطلاق نار وبها سميت الحادثة (حادثة القصر)، ومع سقوط شهداء في الحادثة طوت المكلا صفحة من تاريخها السياسي، لكنها لم تطو صفحة الشيخ القدال باشا، الذي ظل في رؤوس الحضارمة مشعلاً من مشاعل التنوير، وأسس لمرحلة مختلفة من حياة حضرموت، بربط أبنائها بالتعليم والمعرفة.
الشعوب العربية ما يربطها ببعضها ليست شعارات وجدانية بل ما هو أشد من ذلك، فالسودان الذي عرف بيوت الحضارمة من التجار ومن أهل المدرسة الصوفية الحضرمية، له مع قصة القدال باشا قدر كبير في ضمير أبناء حضرموت جيلاً يعقب آخر،، وهذا ما تأكد بتكريم السلطنة للشيخ المعلم القدال باشا، وشهادته التي جاءت في مذكراته عن خصائص المجتمع الحضرمي، وأنه مجتمع ديمقراطي بطبيعة أهله.
بعد كل هذه السنوات، يعود سؤال في ذهن بعض الحضارمة: ماذا لو تم تعيين القدال باشا وزيراً للسلطنة، أي رئيساً للوزراء، ما كان سيكون حال حضرموت اليوم، التي تعيش الألم بعد الألم، فالمحافظة التي تمنح الدولة كل ميزانيتها من الإنتاج النفطي، تعاني النقص في الغذاء، وإغراقاً في الجهل، وتوزيعاً للجهل عبر القات، وخدمات لا تكاد ترى من كهرباء وصحة وماء، هذا حال حضرموت اليوم بعد أن كانت الديمقراطية فيها وصلت لمرحلة لم تصلها أقطار عربية أخرى، رحم الله القدال باشا، ورحم الله حال حضرموت.
*الاتحاد الإماراتية