رشيد الخيُّون يكتب:
النجف.. تفادياً للأوبئة حُرم نقل الجنائز
نعود إلى العام 1911، وكان العراق، وبقية البلدان، ما أن يخرج مِن وباء إلا يبتلى بوباء آخر، في ذلك الزمان استرعى نقل الجنائز إلى النجف، التفات الفقيه هبة الدين الشَّهرستاني (ت1967)، تأتي مِن شتى البلدان وعلى وجه الخصوص مِن البلدات الإيرانيَّة، فأصدر صاحب «مجلة العلم» (1910-1912) رسالة «تحريم نقل الجنائز»، وذلك لما في هذا النقل مِن أضرار على العراقيين، وواجه صاحب الرِّسالة انتقادات شديدة مِن قبل الفقهاء الذين وصفهم بالقول: «يحسنون الهيمنة على شعور العوام» (الخاقاني، شعراء الغري)، ينشط هؤلاء في هذه الأيام لإعاقة قيام دولة قانون، وأخطرها الإجراءات الرسمية لتفادي مضاعفات الوباء (كورونا)، أما الذين وافقوا هبة الدِّين الرأي غلسةً، فلم يجرؤوا على الإفصاح، خشية من تضرر مصالحهم بين العوام.
شرح هبة الدِّين أسباب إصداره الرِّسالة، التي أثارت أصحاب المصالح بنقل الجنائز، في مجلة «العلم» (العددان 3 و5/1911)، ناشراً الرسائل التي حذرته مِن تُهم الفقهاء بخروجه من الدِّين والمذهب، أجاب بأن ذلك التَّقليد ليس مِن الدِّين، وأتى بنماذج مفزعة لما حلَّ بالجنائز المحمولة، كتعرضها لحرائق في الخانات على الطريق، مثل حريق عمَّ العشار بالبصرة لأربعمائة جنازة، هذا مِن غير نقل الأمراض، وقوافل الجنائز تمر عبر المدن والقُرى، ينقلها تُجار مختصون، وفقهاء يبثون فضل الدفن في تربة النَّجف.
شجعت أقوال للدفن في مقبرة النَّجف المترامية الأطراف، منها: «ما من مؤمن يموت في شرق الأرض وغربها إلا قيل لروحه الحقي بوادي السَّلام»، وهو اسم مقبرة النَّجف، والسلام، اسم من أسماء الجنة، والمقصد واضح عندما يرتبط هذا الاسم بمقبرة! ففي تربة النَّجف يعفى دفينها من العذاب، لذا نُسب إلى عليِّ بن أبي طالب (اغتيل 40هـ) القول: «اللهم اجعل قبري بها، ومن خواص تربته إسقاط عذاب القبر، وترك محاسبة منكر ونكير» (محبوبة، ماضي النَّجف وحاضرها)، كذّب هبة الدِّين تلك الأخبار، واعتبرها أخبار المنتفعين.
على ما يبدو، بدأ تقليد الدّفن في تربة النَّجف مع العهد البويهي (337-447هـ)، كان أوّل المدفونين من السَّلاطين والوزراء عند المرقد العلويّ، الذي يُعرف بالمشهد، عضد الدّولة (ت373هت)، قيل: «دفن عند رجلي الإمام، وكتب على قبره بوصيّة منه: هذا قبر عضد الدّولة وتاج الملّة أبي الشجاع ابن ركن الدولة، أحبّ مجاورة هذا الإمام المعصوم لطمعه في الخلاص يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها» (ماضي النَّجف وحاضرها)، دفن في وادي السَّلام، طمعاً بالإعفاء مِن الحساب أيضاً، شريف الدَّولة ابن عضد الدّولة (ت 379هـ)، وبهاء الدّولة ابن عضد الدّولة (ت 403ه،)، وكان الحمدانيّون «ينقلون موتاهم من الشام، وحلب، وديار بكر، والموصل، وفارس، وعراق العجم إلى النّجف» (عن كاشف الغطاء، سمير الحاضر وأنيس المسافر).
صارت لنقل الجنائز ودفنها شبكة اقتصادية، فالدَّفن صار مهنة للعديد مِن الأُسر النجفية، ازداد نشاطهم خلال الحروب وانفلات القتل بعد 2003، مِن غير أن أغلب العراقيين المتدينين بالخارج تحمل جثامينهم للدفن هناك، ناهيك عن أموات الداخل كافة، يُذكر للجنازين أنهم كانوا يقومون بدور وكالات الأنباء، لكنَّ النَّجفيّين لا يعتدون بها، فيطلقون على الأخبار التي يحملونها بـ «أخبار جنّازين» (الخليلي، هكذا عرفتهم)، صلةً بما تقدم، يمكن اعتبار الحملة التي أُطلقت ضد هبة الدِّين، في مكافحته لفيض الخرافة، ما هي إلا «أخبار الجنازين».
لأن النَّجف تستقبل الجنائز على مدار السَّاعة، وطلبة الفقه الإمامي أيضاً، اختصرها ابنها أحمد الصَّافي (ت1977): «إن الغري بلدةٌ تليـق أن/تسكنها الشِّيوخ والعجائـزُ/فصادرات بلدتي مشايخ/ وواردات بلـدتي جنائـزُ(المصدر نفسه)