محمد حسين السماعنة يكتب:
من وين بلا زغره؟
المشاوير التي تجلب الدفء إلى القلب هي المشاوير التي نحمل فيها رفاق السفر ويحملوننا فيها، ولعل رحلتي إلى الضفة الغربية الفصلية كانت من أمتعها ،فهي كانت تقطر بالأحاديث التي لا تنتهي عن البلاد والشوق إليها ولكن سؤالا واحدا كبيرا أخضر كان يظل أمامك أينما جلست وحيثما وقفت ،كان أيقونة المكان وفاتح الشهية لأي حوار ،فلا تكاد تمر دقيقة عليك وأنت تجالس الانتظار على عتبات الضفة الغربية حتى يقرع جرسه أذنيك " من وين بلا صغره؟".
ولم تكن انتظارت الأعين المترقبة تستفزني أو تضايقني وهي تلقي علي هذه اللازمة اللقائية وأنا في السيارة أو على مقاعد المنتظرين على جسر دامية فأجيب وأنا رافعٌ عيني وباسط كفي، ومرقص شفتي ، وناشر علامات الحب على وجهي، ومنتصب كرمح :أنا من بيت إيبا فيرد السائل بالتفاتة ربيعية مادحة مطعمة بابتسامة ندية :والله والنعم! ومن هنا كانت تبدأ الحكايات وترتسم الضحكات وتطوى المسافات - انت من أي عيلة ، وابن مين انت؟ - أنا محمد ابن أبو جمال ! - يا الله على هالدنيا شو صغيره ، أبوك كان معي في العسكرية ولك أنا محمود العصيري ابن خالد الاحمد مش متذكرني ؟.
قطيعة تقطع اليهود قالت العجوز التي كانت تتابع أنفاسنا وتقلبات وجهينا يا كشيلي عليكم ، بطل الواحد منا يعرف حدا، شعتلتنا هالغربة ، وتعتستنا ! وهو سؤال قديم جديد متجدد لم يكفف عن مشاغباته منذ سمعته أول مرة وأنا بين أحضان جبال طلوزة وعلى مرأى من استراحة وادي الباذان فقد صار زاد المسافرين وهو قد تكاثر وتناسل وتعددت أهدافه ومراميه ولهجاته بعد النكبة وتنوعت مشاربه وحروفه بعد النكسة فصار يقدم لك في الطلبات مع إبريق الشاي، ويوضع لك مع ربطة الفجل ،وبين أكوام الملفوف ،وعلى رفوف الكتب، وبين صفحات الذكريات والحكايات وعلى ألسنة السمار وفوق عربات الخضار ، وفي مطربانات المخلل ،وفي أرغفة الزيت والزعتر ، وبين أعواد الملوخية، وفي طلبات الحصول على طبق بيض وربطة خبز، وعلى رأس صفحة دفتر الدين في دكانة أبي ، وعلى الرصيف العاري.
،ثم أصبح السؤال رسميا أكثر ،ودبلوماسيا أكثر مع بحة في الصوت ولكنة غريبة في القلب ،وخشونة في الروح... كاتب الاستدعاءات بجفاف:مكان الولادة؟ محاولا كسر بعض الجفاف وكسر بعض الجمود:أنا ما ولدت ،أنا ذكر ينظر إلي بعينين زائغتين طويلتي اليدين ،ثم يفتح. دفتر العائلة ويكتب وهو يتمتم ،بيت اييييبا ، ثم يقول بصوت أكثر جفافا : أبوك وين ولد ؟ وأما السؤال "من وين بلا صغره " فتقوقع على مقاعدنا القديمة ونام بين نواجذ الناس المنظرين هناك!!