علي قاسم يكتب:
طريق كورونا مفروشة بالنوايا الطيبة
خلال شهر ديسمبر، عام 1988، أثارت وزيرة الصحة البريطانية في ذلك الوقت، إدوينا كاري، الفزع بسبب تعليقاتها عن البيض وبكتيريا السالمونيلا، عندما قالت إن “معظم إنتاج البيض في بلدنا (بريطانيا)، للأسف، مصاب بالسالمونيلا”.
التصريح الشهير كلّف إدوينا منصبها واضطرها للاستقالة. ليثبت لاحقا أن هناك بالفعل مشكلة تتعلق بوجود السالمونيلا في البيض، في ذلك الوقت.
وبحلول التسعينات من القرن الماضي، بدأ المنتجون برنامجا للتحصين. والآن بعد 30 عاما، أصبح البيض في بريطانيا من بين الأكثر سلامة للصحة في العالم.
السياسيون في تعاملهم مع الأوبئة كمن يسير في حقل من الألغام، لا يعلمون متى ينفجر لغم تحت أقدامهم. رأينا ذلك يحدث في الماضي، مع ظهور السالمونيلا، ومع ظهور جنون البقر وإنفلونزا الخنازير.
واليوم نرى ذلك يحدث، ويتكرر عشرات المرات، مع ظهور وتفشي وباء كورونا؛ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تحدثت منذ الأيام الأولى عن احتمال إصابة 60 إلى 70 في المئة من الألمان بالفايروس، ورئيس الوزراء البريطاني طلب من الناس أن يودعوا أحبابهم.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي اعتاد إطلاق التصريح ونقيضه، خلال 24 ساعة، تعامل مع وباء كورونا بنفس الأسلوب، يطلق التصريح ليتبعه بتصريح معاكس.
هل يمكن أن نلوم السياسيين على إطلاقهم تصريحات تأتي أحيانا متناقضة، وأحيانا أخرى تجانب الصواب؟ الطيبون لا يعتقدون ذلك، فالسياسيون إن لزموا الصمت وامتنعوا عن الإدلاء برأيهم سيلامون فيما بعد، وهو سيلامون أيضا على كل تصريح خاطئ، وليس أمامهم أن يفعلوا إلا ما فعله ترامب، يتخذ القرار ويطلب من الله أن يكون على صواب بقراره.
بالطبع، هذا إن كانت نوايا الحاكم صادقة؛ عندها إن هو “اجتهد ثم أَصاب فله أجران” وإِن “اجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد”. ولكن، الإنجليز على الأقل لا يؤمنون بحسن النوايا ولديهم مثل شهير يقول “الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الطيبة”.
تسلح ترامب بالطيبة ولجوؤه إلى الله في كل قرار يتخذه لن يحمياه من اللوم والتقريع، إن هو اجتهد فأخطأ. وكذلك لن يحمي حكام الصين، فهم لن يجدوا من يتعاطف معهم في حال ثبت أنهم قصروا في تعاملهم مع فايروس كورونا، وتسببوا في انتشاره عبر العالم.
ورغم أن الصين، التي ظهر فيها الفايروس أواخر العام الماضي، تعاملت مع الخطر المحتمل بجدية. وفرضت حالة العزل العام لمدة 70 يوما. ونجحت في منع انتشار الوباء داخل أراضيها، إلا أن الولايات المتحدة وأطراف أوروبية أخرى تحمّلها مسؤولية تفشي الوباء عبر العالم.
المسؤولون في الصين متهمون اليوم بتعمد الصمت لمدة 6 أيام، قبل الإعلان عن ظهور الفايروس داخل البلاد؛ تركوا خلالها الآلاف يسافرون لقضاء عطلة السنة القمرية، دون أي قيود أو تحذيرات من وجود فايروس.
وأقامت مدينة ووهان، بؤرة تفشي الوباء، “مأدبة جماعية لعشرات الآلاف” خلال احتفالات السنة القمرية.
عندما أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ تحذيره من خطر الفايروس، في السابع من يناير، كان هناك أكثر من ثلاثة آلاف شخص أصيبوا بكورونا، خلال ما أسمته وكالة “أسوشيتيد برس”، أسبوع الصمت، الذي قالت إن الحزب الشيوعي قد فرضه.
ووصف عالم الأوبئة في جامعة كاليفورنيا الأميركية زوفنغ زانغ الصمت الصيني المتعمد بـ”الأمر الفظيع”، مؤكدا أن تأخرهم ستة أيام في الإعلان عن ظهور أول حالة تسبب في زيادة كبيرة بأعداد الإصابات والوفيات.
وسبق لتقارير إعلامية غربية أن تحدثت عن إجراءات صارمة وحملات تخويف مارستها السلطات الصينية تجاه أي شخص حاول الكشف عن تفشي الفايروس في البلاد.
وتحت شعار “ترويج الشائعات” المحبب من قلوب الأنظمة الدكتاتورية، سجنت الصين 8 أطباء بينهم الطبيب لي وينليانغ، الذي توفي في فبراير إثر إصابته بكورونا، بعد أن كان أول من حذر من انتشار الفايروس في مستشفى ووهان، وأجبرته السلطات حينها على الصمت.
ولا تقتصر الاتهامات الموجهة لحكام بكين على التكتم ستة أيام على الفايروس، حيث أعلنت واشنطن عن فتح تحقيق لكشف مصدره. وكانت سفارة الولايات المتحدة في بكين قد أخطرت وزارة الخارجية الأميركية، قبل عامين، عن تدابير وقائية غير كافية في مختبر في ووهان يعمل على دراسة فيروسات كورونا لدى الخفافيش.
وتعتبر مصادر عدة أن فايروس كورونا الحالي مصدره هذا المختبر بالذات، وهو غالبا فيروس طبيعي، غير مركّب من قبل الصينيين، تسرّب لا إراديا بسبب اتباع تدابير وقائية غير سليمة.
وبينما رفض الرئيس الأميركي الخوض في التفاصيل، مكتفيا بالقول إن “هذه الرواية تتردد أكثر فأكثر. سنرى”، أشار وزير خارجيته مايك بومبيو ضمنيا إلى السلطات الصينية، عندما قال إن واشنطن تجري “تحقيقا مفصّلا بكل ما لديها من إمكانات حول كيفية تفشي هذا الفايروس، وانتقال العدوى في العالم”.
وبناء على آراء خبراء، سجّل أول ظهور لفايروس كورونا المستجد أواخر العام 2019، في سوق لبيع الحيوانات البرية في ووهان، حيث تعرض للبيع حيوانات حية متنوعة من بينها جرذان وعظايا عملاقة وخفافيش. والمعروف أن معهد علم الفايروسات في ووهان يقع على مسافة بضعة كيلومترات فقط من السوق.
والصين إلى جانب ذلك متهمة بإخفاء الأرقام الحقيقية حول عدد الإصابات بالفايروس، وعدد الوفيات الناجمة عنه، وهذا ما دفع ترامب للتغريد عبر تويتر، قائلا إن أرقام الوفيات في الصين أعلى بكثير من الولايات المتحدة.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وجّه بدوره أصابع الاتهام إلى بكين. وقال لصحيفة “فاينانشل تايمز” البريطانية “من الواضح أن هناك أشياء حدثت ولا نعرفها”، مشككا في حصيلة الضحايا التي أعلنتها بكين.
ليست المشكلة في أن الصين أجرت تجارب على فايروس كورونا داخل مخابرها، الجميع يجري مثل تلك التجارب، وقد يكون التسرب، في حال ثبت ذلك، مجرد خطأ يمكن أن تلام عليه، ولكن دون أن يصل الأمر إلى حد التجريم.
“أسبوع الصمت” الذي أخفت الصين خلاله معلومات عن أول إصابات بالفايروس لمدة ستة أيام، هي الجريمة التي لن تغتفر لحكام بكين، حتى وإن كانت النوايا من وراء إخفاء المعلومات طيبة.
لن تنسى البشرية يوما أن هذا الصمت أتاح لفايروس كورونا الفرصة لاجتياح العالم.