الحبيب الأسود يكتب:

السراج يشهرُ العقاب الجماعي على شعبه

ما يدور في ليبيا منذ عام 2011 يكشف بما لا يدع مجالا للشك، أن العالم محكوم بازدواجية المعايير، وأن كل الشعارات التي تُرفع في لحظات تاريخية معينة، سرعان ما تسقط بعد تنفيذ الهدف الذي رُفعت من أجله. حدث ذلك عندما تم الترويج لشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتكريس قيم المدنية والمواطنة، لتحشيد الرأي العالم الدولي في حرب الإطاحة بمعمر القذافي، ثم تم التخلي عنها بمجرد أن سقط النظام وتولت ميليشيات إرهابية الإمساك بمقاليد الحكم.

وإلا كيف نفسّر صمت العالم عن الانتهاكات التي مارستها، ولا تزال تمارسها، جماعات مسلحة تستظل بظل حكومة حصلت على شرعية دولية، وبقيت تلوكها إلى اليوم، رغم أنها شرعية منقوصة بلا غطاء دستوري ولا دعم شعبي، ورغم أن حكومة الوفاق تجاوزت الأجل الممنوح لها في الاتفاق السياسي بضعف مدته ومدة التمديد المتاحة له، ولم تنفذ أيا من الأهداف التي زكاها العالم لأجلها في مؤتمر الصخيرات في ديسمبر 2015؟

وكيف نفهم تجاهل العالم لجريمة الحصار الذي تنفذه تلك الحكومة ضد أكثر من مليون ليبي في مناطق النواحي الأربع المحيطة بطرابلس، وفي مدينة ترهونة، حيث لا كهرباء ولا اتصالات، ولا مؤونة ولا دواء، والسبب أنها مناطق خاضعة حاليا لسيطرة الجيش الوطني؟

هل يعقل أن يموت مرضى الفشل الكلوي في ترهونة بسبب قطع الكهرباء على المدينة منذ أكثر من أسبوعين؟ وهل يعقل أن تُحرمَ النساء الحوامل من الولادة تحت الرعاية الطبية في المستشفيات، ويحرم الأطفال من الحليب، ومرضى السكري والضغط والقلب من الدواء، فقط لأنهم يعيشون في مدينة مغضوب عليها من قبل فايز السراج وجماعة الإخوان والميليشيات؟

كيف كان الغرب سيتصرف لو أن الذي فعل ذلك هو نظام القذافي عندما كان يحكم في ليبيا، أو نظام صدام حسين عندما كان يحكم في العراق، أو نظام بشار الأسد الحاكم في سوريا؟

بالتأكيد أن حروبا سياسية ودبلوماسية واقتصادية وإعلامية وحقوقية كانت ستعلن ضده لأن المتحكمين بالقرار الدولي يعتبرونه نظاما مارقا، أما حكومة السراج فلا أحد يحاسبها على حصارها للمدنيين، ولا على انتهاكات ميليشياتها في حق المدن أو القرى التي تدخلها، ولا استباحتها للممتلكات العامة والخاصة، وبثها الرعب في صفوف المواطنين العُزّل.

وعندما استدعى السراج قوات تركية وآلافا من المرتزقة السوريين والمتمردين التشاديين ليدفع بهم لمقاتلة شعبه، لم يحرك العالم ساكنا، ليس فقط لأنه منشغل بأزمة فايروس كورونا، ولكن لأن هناك ازدواجية للمعايير يتعامل بها العالم مع الأوضاع في البلاد.

في العام 2011 سارع مجلس الأمن بعرض قائمة بأسماء عدد من رموز النظام على المحكمة الجنائية الدولية بتهم برأهم منها القضاء المحلي، وتبين أن أغلبها كان صناعة إعلامية إخوانية قطرية غربية مرتبطة بما سمي آنذاك بالربيع العربي، لكن لا المجلس ولا المحكمة نظرا في ما شهدته ليبيا من جرائم الحرب ضد المدنيين من قبل الميليشيات، كالتهجير الجماعي لسكان مدينة تاورغاء ولأهالي المشاشية والقواليش وورشفانة وغيرها، والهجوم على بني وليد، ومذبحة غرغور، والاعتداء الميليشياوي الإرهابي على قاعدة براك الشاطئ، ونقل السلاح والمسلحين من مصراتة لدعم إرهابيي القاعدة في درنة وبنغازي، والانقلاب على انتخابات 2014 واجتياح مؤسسات الدولة وحرق المطار، والعشرات إن لم نقل المئات من الجرائم الموثقة، وصولا إلى التدخل التركي العسكري المباشر، والاعتراف بجلب آلاف المرتزقة من شمال غرب سوريا للقتال تحت شعارات أيديولوجية متشددة، ومحاصرة مدن وقرى وقطع الخدمات الأساسية عنها كما يحدث حاليا مع ترهونة وبني وليد ومناطق النواحي الأربع.

كان الجيش الليبي قادرا منذ أبريل 2019 على تحرير العاصمة، ولكنه اختار التريث واستنزاف الميليشيات خارجها حتى لا يتحول المدنيون إلى دروع بشرية للجماعات المسلحة، لكن ما يحدث اليوم هو هجوم معاكس مدعوم من غزاة ومرتزقة أجانب لاستهداف مدنيين عزل وأبرياء ليبيين آخرين، وهو ما أسقط شعارات المجتمع الدولي وأطاح بالشرعية الدولية وكشف عن ازدواجية المعايير الخارجية في التعامل مع الملف الليبي، ولن يكون أمام الشعب الليبي وقواته المسلحة إلا الرد القوي الذي لن يتأخر كثيرا.