نوري الجراح يكتب:

صورة الأرض بعد ألف سنة

أول مرة منذ سنوات، أرى الثعلب الرمادي الصغير يجتاز الشارع ويمر تحت نافذتي، من دون أن يبدو عليه أي خوف أو تردد. بالمقابل أطلُ على الحديقة الخلفية وأرى جاري الشاب وقد استرخى في مقعده الخشبي تحت الشمس وفي يده المتراخية قليلاً حبل انتهى إلى ربقة تحيط بعنق قط سيامي، رمادي، هو الآخر، وموشح بشيء من الزرقة الداكنة. والقط، يجاهد ليطيل من الحبل ما أمكنه وأنفه الناعم يتشمم أعشابا راجفة في هواء خفيف.

لم يسبق لي قبل اليوم أن رأيت قطاً مربوطا بسلسة، فالقطط لطالما كانت ذات طبيعة استقلالية. من المؤكد أن الثعلب الباحث عن رزقه في الأزقة الخالية من البشر، كان على تشرده أكثر سعادة من هذا القط السيامي المدلل الذي لم يبد مستوعبا فكرة الحبل في يد صاحبه والربقة في عنقه.

صورتان مؤثرتان.

ربما كان أعظم ما يقدمه لنا فايروس كورونا وقد تحوّل الى وباء جائح، أنه يعيد تذكير مجتمعاتنا الإنسانية بنسبية القدرة على التحكم بالطبيعة، أولا. وبكل شيء تالياً، وبالتالي بضرورة احترام هذا المعنى بينما نحن نفكر بإيجاد الحلول لهذه المعضلة الضخمة، معضلة الوباء الداهم، وهو موعد واحد من مواعيد التهديد لوجودنا على الأرض بسلاسة تكاد السلوكيات الأنانية لوجودنا أن تحيلها إلى ذكرى ومادة لحكايات الماضي عن رفاه أرضيّ لم يعد موجودا.

مرة أخرى، هل يمكن القول بأنّ الجائحة الحالية أيقظت الإنسان ليتذكر جيدا نسبية قدرته على التحكم وضرورة تحرير الذات مما أسرها من أخلاقيات القطيع الاستهلاكي الدائخ على سلالم الكهرباء في المجمعات التجارية الكبرى التي كل حانوت من حوانيتها يقدم لك ربقة تضيفها إلى عنقك أو يدك أو قدمك في متاهة استهلاكية لا تبقي منك سوى صورة العبد الطائع، العبد الأناني المتمسك بما فاز به من متاع “المول”، الحريص على أشيائه ببخل وريبة بالآخرين، كما لو كان هذا المواطن المسخ هو الإمكانية الوحيدة لصورة الفرد في المجتمع.

هل نستوعب من هذه الجائحة ما تقوله لنا من أن أوان العودة إلى قيم التبادل والتعاطف والتفاهم والتشارك بل والتطوع لأجل الآخر، وغير ذلك من القيم النبيلة المهجورة قد آن، وأن لا خلاص للكائن ولا نجاة إلا باستعادة ما أرغمتنا قوانين السوق على التخلص منه من قيم كانت حتى وقت قريب توصف بأنها نبيلة.

ولكن هل يمكن إنقاذ حياة الإنسان، من دون احترام بيئته الطبيعية التي تعتبر منذ وقت طويل الحلقة الأكثر انتهاكا في منظومة الحياة الحديثة، لما تعرضت له منذ بدايات الثورة الصناعية خصوصا، وحتى اليوم من انتهاكات جسيمة؟

لا أظن أن هناك إجابتين عن هذا السؤال. لذلك، يبدو من العبث حقاً الاستمرار في طرح مثل هذه الأسئلة، في وقت يعي الإنسان جيداً حجم المخاطر التي يتسبب بها سلوكه الأناني، ليس الفرد وحده ولا الجماعة وحدها، ليست المؤسسة الكبرى ولا المحترف الصغير، وليس قليل الخبرة، وحده ولا واسع المعرفة. جميع بني البشر متورطون في الكوارث التي ألحقت بالكوكب، كل على نحو وكل بمقدار. حتى بات الكوكب يئنّ تحت ضربات الإنسان وقسوته على الطبيعة.

والواضح أن القوى الكبرى صاحبة القدرة في تقرير المصائر، إنما تسعى منذ وقت ليس بالقصير للتخلص من هذا الكوكب المستنزف والمغادرة إلى كواكب أخرى أكبر حجماً وأكثر ثراء.

والواقع أن السيطرة على الكواكب الأخرى كان العنوان الأكثر إثارة لي خلال الأسبوع المنصرم. وهو ليس عنوان رواية، ولا اسم فيلم من أفلام الخيال العلمي، ولا هو عنوان مسرحية من مسرحيات يوجين يونسكو أحد أقطاب مسرح العبث، ولكنه الاتهام الذي وجهته وكالة الفضاء الروسية (روسكوسموس) للأميركان في شخص رئيسهم دونالد ترامب بأنه يخطط للسيطرة على الكواكب الأخرى.

أثارني هذا العنوان، استقبلته بمزيج من الجد والسخرية والغرابة معا. تخيّل شخصاً يجلس بين أربعة جدران ويشعر بها وكأنها غابة من الحواجز المطبقة في متاهة لولبية لا تفضي إلا إلى المزيد من الضياع في مربعات متتالية.. وتخيل نفسك تستقبل هذا الخبر الفضائي بينما كوكب الأرض يهرب من تحت قدميك. شيء خرافي، شيء ينتمي إلى دنيا الفانتازيا، حيث يتحول الواقع إلى شيء لم يسبق أن كان مألوفا. وتصبح المخيلة الفانتازية، سلوكاً ينتهجه الزعماء والسياسيون عوضا عن الروائيين والمسرحيين وسينمائيي ما بعد الحداثة.


من الواضح أن شكوى الدبّ الروسيّ (وقد تحوّل في السنوات الأخيرة إلى ابن آوى) من العم سام مرتبطة بما قام به الرئيس ترامب مؤخراً من إجراءات تنفيذية قد تبدو لنا فانتازية وغريبة، ولكنها تترجم المخططات المستقبلية إلى أسس عملية تقوم عليها السيطرة على كواكب أخرى، وتسري وفقها سياسات التجارة والتعدين في الفضاء. وحاليا تنشط الوكالات الأميركية المعنية للتفاوض مع جهات أميركية وأخرى دولية لتأسيس عمل يوصف بأنه سلس (!) يتصل بـ”جلب الموارد الفضائية” إلى الأرض. وما ليس طريفا أبداً أن الدولة الأميركية العميقة لا تعتبر الفضاء مشاعا للآخرين، وبالتالي فهو موضوع احتكار أميركي أساساً، على رغم ما يبدو من تعاون بين وكالة الفضاء الأميركية والوكالة الروسية للفضاء. وهذا يفتح المجال لنقل الصراع بين أميركا والقوى الأخرى من الأرض إلى الفضاء. (أتخيل نفسي الآن وأنا أكتب هذه السطور طرفا في تلك الفانتازيا الإنسانية المتطلعة إلى الفضاء البعيد، بينما سكان الكوكب الأرضي جميعهم مختبئون في البيوت! هربا من عدو مجهول بالكاد يرى بالمجهر.. كيف سيتصرفون غدا في الكواكب الأخرى بعوالمها المجهولة؟!).

ولكن هل في وسع قوة أخرى منافسة الأميركيين في الفضاء أو تعطيل نظريتهم الاستعمارية بنظرية تقول بأن الفضاء مشاع عالمي، وأنّه ملك للبشرية جمعاء؟ ولكن ألم تكن الأرض ذات يوم مشاعاً، قبل أن تستعمرها الإمبراطوريات وتحتازها هي وسكانها أملاكا لها، ومن ثم تدور بها دورات التبادل والاحتلال عبر العصور، بين قوة آفلة وأخرى صاعدة؟

ألم تكن قارة أميركا بأسرها ملكا جرى نهبه بكل ما للكلمة من معنى، وتدمير ساكنته التي عمرته منذ أن وجد الإنسان في تلك القارة من الأرض. من يجادل اليوم في حقوق من أطلق عليهم الأوروبيون بـ”الهنود الحمر”؟ لا أحد.

إذن لا، لن يكون الفضاء ملكا للبشرية جمعاء، ولكن لمن يمتلك سلاح العلم الأكثر تطوراً، والقوة القاهرة.

هل يبدو نافلاً أو غريبا السؤال، بعد ذلك، عما إذا كان التنافس المحموم بين الشركات الطبية العملاقة اليوم للوصول إلى مصل يكبح جماح الوباء ويقضي عليه، إنما ينطلق أولا من الدافع الأخلاقي والنزوع التشاركي في اقتسام الواجب الإنساني في لحظة كونية كارثية الطابع، وهو المحرك لنشاط هذه الشركات في إعلاناتها المتعاقبة عن التجارب التي تجريها بحثا عن دواء يوقف النزف البشري وينقذ البشرية من الهلاك؟ ولا حاجة بنا بالتالي من توقع أضرار جانبية تقع في الأرواح في سياق المزاعم الطبية الناجمة عن هذا التنافس المحموم؟

وباء الطغيان

كثر الحديث ودار اللغط بين الناس حول ما إذا كان فايروس كوفيد 19 من صنع نفسه، أو هو من صنع البشر؟ وقد غذّى هذا التساؤل تصريحات من سياسيين، وكتابات كتاب واسعي الخيال، وتحليلات جرى تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي. الساخرون ممن ألجأهم الاستبداد إلى خيام العالم، وباتوا يسكنون في مواقع التواصل، هم أولئك الذين هان عليه وباء كوفيد 19 أمام وباء الطغيان.

من الحكايات الساخرة أن يخرج وزير الصحة في بلد ينتشر فيه الطغيان كالوباء، ليعلن عن عدم وجود أي حالة إصابة في بلاده، فهي نظيفة تماما. الكاميرات التقطت التعبير في الوجه الفخور والثقة في الصوت الذي ردد حرفيا “الجيش العربي السوري طهر الكثير من الجراثيم الموجودة على أرض سوريا”. آخر ما كانت تقصده كلمات وزير الصحة هو الفايروس كورونا، وقد فهم الحضور وكل من سمع الخطبة المرعبة، أن المقصود بالجراثيم، هذه المرة، هم البشر، وهو اعتراف لا يعوزه قناع ولا خجل بما ارتكبه نظام الوزير من عمليات تصفية جسدية لأهل

الاعتراضات الشعبية منذ 2011 وحتى 2020. لم ينسَ الوزير الفاشي أن يوجّه الشكر للذين قضوا على الجراثيم في البلاد. إنها الفانتازيا الدموية، فانتازيا الفاشيين الصادرة عن انتصار ثقافة الموت على ثقافة الحياة. والغريب أن يمر التعبير عنها في الإعلام العربي والدولي بمنتهى السلاسة، ومن دون أي نوع جدي من الاستهجان.

نظام يساوي بين المواطن المعترض والفايروس، ويشرعن إبادته، كيف لوزرائه أن يعترفوا بالحقائق، بالتأكيد، إن من ينكر وجود سجناء في سجونه المترعة بأهل الرأي حري به أن ينكر وصول فايروس كورونا إلى بلاده، على الرغم من جميع المعلومات والمعطيات الدامغة التي تؤكد العكس.

وإذا كان هذا شأن وزير الصحة، فإن ثقافة المؤامرة لدى النظام وقد ربطت بين كورونا والمخططات الإمبريالية التي تستهدف الحلفاء في كوريا الشمالية، الصين، إيران، حزب الله، لم تعد (رغم شعبيتها) مسلماً بها لدى قطاعات واسعة من الناس، لاعتبارات بعضها يتعلق بنضج الوعي بالظواهر وأسبابها، وبعضها يتصل بالقبح الذي بات يميز صورة المتكلم!

لكن العبثي في الأمر أن ثقافة المؤامرة لا تفارق خطابات تلك النخبة الرعاعية الحاكمة بأزيائها المدينية وأفقها القروي الضيق، والتي لم تمكنها تجربتها المدينية في علاقتها بالناس مما هو أكثر من تطوير ثقافة العزل المنزلي للمواطنين على مدار نصف قرن من فاجعة الحكم الشمولي، المشفوع بالقتل تحت التعذيب للمشبوهين والمتمردين على نظرية المؤامرة، فالمؤامرة مصطلح محبوب، شيء متأصل في صلب التكوين النفسي للشخصية الاستبدادية، ومرتبط ببرنامجها القائم على منظومة متكاملة من الجرائم والأكاذيب.

وإذا كان من العسير على المهاجرين والمنفيين من حملة الأقلام السوريين (وكذلك العراقيين وغيرهم من ضحايا ثقافة الموت على الطريقة الإيرانية) توصيف الحال السوري من الداخل كما يمكن (وكما يجدر) أن يفعل من هم في الداخل، فلماذا لم نسمع صوتا واحدا من بين المثقفين الموجودين في الديار يجادل الوزير أو ينبه المجتمع إلى فاشية خطابه؟

بعد ألف عام

لا يملك من يجلس ويتابع عداد الأرقام وهي تحصي نفسها بالأرواح، وبالبشر المتساقطين صرعى بفعل اجتياح الفايروس القاتل، إلا أن ينضم إما إلى تيار المنجرفين في قراءات خلاصية تفسيراً للجائحة وما تنبئ به من مصائر، وإما أن يشك في كل شيء، بما في ذلك طريقة الإحصاء وما تخلص إليه من نسب، فلا يأخذ بالمعطيات بوصفها مسلمات. ولكن هل هناك أخبار تجافي المنطق، عندما لا يعود هناك تصور غير مهزوز لفكرة المنطق، في وقت تجتاح الجائحة روع الإنسان وتماسكه الفكري والنفسي، بينما الكارثة واقعة، وعداد الموت لا يتوقف..!

ما سلف جولة أفكار لشخص يجلس وراء زجاج نافذة، ويستعيد الصور، مستعيراً من ابن حوقل اسم كتابه “صورة الأرض” بعد ألف سنة من رحيل الجغرافي العربي.