نوري الجراح يكتب:

كعب آخيل وصرخة جلجامش وابتسامة الخائف

في أزمنة الحروب والكوارث والجوائح الكبرى، كما هو الحال بالنسبة إلى اللحظة الراهنة وقد عمت مخاطر الهلاك بكورونا أنحاء الكوكب، ومع تزايد أعداد الناس اللائذين ببيوتهم يلازمونها فلا يخرجون منها إلا في حالات طارئة، هنا، عند هذا الجرف المهول، تحت سماء مدلهمّة تنذر بأسوأ العواقب، يبدأ الاختبار الإنساني. تتساقط الأقنعة الاجتماعية عن الوجوه، ونبدأ في التعرف على معارفنا، كما لو أننا نلتقي بهم للمرة الأولى. فنحن في لحظة المصير.

إنه الإنسان في لحظته الكونية. الكائن البشري في ساعة فاصلة من ساعات الحقيقة الداهمة.

***

هي لحظة كونية، بامتياز، غير مسبوقة، اللهم إلا في السرديات الكبرى، الطوفان، وقد بات نوح يتيم حكايته، القيامة، ولكل يمين كتاب. هي برهة في المكان وخارجه معا، حيث تتلاقى المصائر وتبدو مشتركة، إنما لكل امرئ مصير لا شريك له فيه سوى روحه العزلاء.

***

هي لحظة للتأمل. وكذلك للمراجعة. تأمل وقائع عصية على التصديق، ومراجعة أفكار وتصورات عن قوة الجنس البشري، وقدرة الجسد الإنساني على الدفاع عن نفسه في مواجهة عدوّ غير مرئي، وهي فرصة – مستقطعة من السياق – للتفكر في استجابات البشر وتصرفاتهم إزاء ما نزل بهم فجأة، وها هو يتحول إلى واقع كابوسي، شؤم لا بد من استقبال صوره المتلاحقة بوتائر شديدة السرعة.

صور مربكة للمواجهة بين هدف مكشوف هو الإنسان وعدوّ غير مرئيّ، هو المرض، حتى يمكن للبشر مواجهته بثقة واقتدار. هناك شيء غير عادل في هذه المعركة، بل شيء غادر.

يسهر العلماء في مختبراتهم بحثا عن مصل يتيح للبشرية مواجهة عدوّ لا يرى إلا في المجهر، لكنه قادر على الفتك بالبشر وتقويض حضارتهم.

***

في الاختبار العظيم ينزع البشر الأقنعة الاجتماعية عن وجوههم فإذا بها وجوه مخطوفة الألوان، ابتسامات شاحبة تستطلع الرجاء في وجوه هي نفسها تستطلع البشرى وتريد أن تقرأ الأمنية في الوجوه.

***

وبقدر ما يصبح الآدمي أرضياً، في ساعة كهذه، بقدر ما يتحول هو نفسه، وبكل قوة الحقيقة فيه، إلى مجاز كوني، كناية عن حاضر يتأهب للغياب، ليكون من بعد حكاية عن وجود لموجود لم يعد، ولم يعد هناك من يمكن أن يروي الحكاية، ولا من يستمع إلى صوت.

***

في ظل الكوارث تنشط المخيلات الدستوبية، وما نشهده اليوم في كوكب الأرض، سبق لمخيّلات المبدعين أن صوّرت شيئاً منه في الروايات والأفلام. وعلى رغم تلك الصور القيامية المذهلة التي رأيناها في السينما وبلغنا معها نهايات العالم، فقد كنا ندرك أن الأمر لا يعدو أن يكون شطح خيال، وأنّ المشاعر القاسية لن تدوم طويلا، وأننا سنغادر مقاعدنا في قاعة السينما ونعود إلى بيوتنا، فقد كنا في السينما.

ولكن هل سيقيّض لنا وقد ألجأنا الوباء إلى البيوت، أن نغادر بيوتنا أحياء هذه المرة؟

***

أوكل الإنسان إلى نفسه، على مدار العصور، مهمة السيطرة على العالم. على مصادر الثروة والقوة والمجد، ولأجل تحقيق هذا الهدف خاض البشر معارك شرسة ودامية وأظهروا قسوة وعنفا جاوزا، غالباً، حدود المعقول. الإمبراطوريات نهضت على جماجم من أطلق عليهم التاريخ صفة الأعداء مرة، فهم الآخر، والضحايا مرة أخرى هم الجموع الغفيرة وقد تحوّلت إلى حطب في رحلة بناء الدول والكيانات الكبرى والمهيمنة.

وبقدر ما يصبح الآدمي أرضياً، في ساعة كهذه، بقدر ما يتحول هو نفسه، وبكل قوة الحقيقة فيه، إلى مجاز كوني، كناية عن حاضر يتأهب للغياب، ليكون من بعد حكاية عن وجود لموجود لم يعد

على أن فكرة تطويع العلم والعمل لأجل امتلاك القدرة الهائلة على الحيازة والسيطرة في العالم، من قبل قوى عظمى، تبقى هذه الفكرة عاجزة عن إصابة الكمال وتحقيق الديمومة، بل إنها ستبقى أبداً عرضة للبلى. فثمة في كل بنية تنهض موضع تصاب منه، ومنه تصيب مقتلاً، وتسقط، حالها حال آخيل في السردية الأسطورية للإغريق، فهو ابن ملك بشري من أمّ حورية. ولكي تضمن له أمه دخول محفل الخالدين الذين لا يهلكون كما يهلك سائر البشر، قامت بتغطيسه في نهر الخلود لكنها نسيت أن أصابعها التي أمسكت بالرضيع من كعبه عند الوتر تركت هناك في ذلك الموضع سر مصرعه. ولما اكتُشف سرّ كعب آخيل ونقطة ضعفه، كان السهم الطروادي في انتظار ذلك الكعب.

الإمبراطوريات، بدورها، لطالما حملت في بنيانها ذلك السر. فتعاقبت صعوداً وسقوطاً عبر التاريخ. وليس ثمة ما يمنع كائناً صغيراً لا يرى في العين المجردة من تقويض بنيان عظيم.

على أن الأفراد في ما فطروا عليه، عبر رحلة التجربة والاكتشاف والوعي، لم يكونوا وعياً عاقلا وحسب، وإنما كانوا حالمين ومبتكرين وصناع لحظات عاطفية مدهشة. ولطالما أعملوا مخيلاتهم المبدعة في أوقات المصاعب الكبرى، فابتكروا سبل التغلب على المحن، وقهروا المستحيل، لأجل أن يستمر الجنس البشري في رحلة وجوده العظيم على الأرض.

***

في أوقات المحن، لطالما فاجأ البشر أنفسهم في قدرتهم اللامحدودة على ابتداع الحيل ليتغلبوا على الشقاء، ويختلقوا لحظات الطرافة واللطف في ذروة أوقات الخوف من المجهول، ليهزموا، من ثم، بالابتسامة المقاتلة شبح الموت.

***

خلال المجاعات وحروب الإبادة قدم الأفراد للجماعة أقصى ما عندهم، وبذلوا التضحيات، ففضّلوا الآخرين على أنفسهم، ومنهم كثرة واجهت الموت لتجنبه آخرين أفرادا وجماعات.

وكم من القصص العظيمة ولدت في ظلال الحروب وإبان الجوائح الكبرى. هل نحتاج إلى أمثلة، كل منا يتذكر ما سبق وقرأ من قصص ووقائع دوّنها الكتّاب إبان الحروب، أو ابتكرتها مخيلاتهم عن حروب خاضها آباؤهم وأجدادهم.

***

واليوم، بينما أتأمّل تدافع الناس طلبا للحاجيات في المتاجر الكبرى، ثمة شيء آخر وراء هذا المشهد، ثمة كنز دفين، في الصدور وفي النفوس، إنه المعدن الإنساني المغيّب وراء صور الاستهلاك، القدرة الهائلة على العطاء، والقدرة على التضحية لأجل الآخر. في اللحظات الأشد والأخطر سوف يلمع هذا المعدن الإنساني الدفين في النفوس، ويقدم أصحابه أبهى ما عندهم.

في السجل الإنساني هناك وقائع مؤثرة لا حصر لها عن ذوات قدمت الآخر على نفسها، وإلا كيف استقرت في ذاكرة البشر وتواريخهم فكرة الفادي، لو لم يُفتدى حبيب بحبيب وأخ بأخ وأم بابنة وابن بأب، وصديق بصديق.

Thumbnail
تحضرني هنا صرخة الشاعر في ملحمة جلجامش ملك أوروك الذي طاف العالم القديم بحثا عن عشبة الخلود لينقذ صديقه أنكيدو، ولذاته الخائفة من الزوال:

“حين أموت ألا يدخل البلى أحشائي؟

هل سأموت هكذا ميتة أنكيدو”.

والواقع أن هذه الصرخة لم تكن صرخة الذات الخائفة من انكشافها وضعفها الشخصي أمام حادثة الفناء، وحسب، وإنما هي تعبير عن خوف جلجامش من هلاك الصاحب والحبيب.

يهتف جلجامش أمام جسد أنكيدو المسجى:

"لتندبك المسالك التي سرت فيها في غابة الأرز

وعسى أن لا يبطل النواح عليك ليل نهار

وليندبك شيوخ أوروك ذات الأسوار

وليبك الإصبع الذي أشار إلينا من ورائنا وباركنا

فيرجع صدى البكاء في الأرياف

وليندبك الدب والضبع والنمر والإبل والسبع والعجول والظباء

وكل حيوان البرية

ليندبك نهر أولا الذي مشينا على ضفافه

وليبكك الفرات الطاهر الذي كنا نسقي منه.”

ولا يمنعني هذا، بعد هذي المرثية للذات والآخر، من أن أسوق بيتا من الشعر صادماً، تأملت فيه ووجدته حقيقياً في وجوديته، ثم تأملت فيه أكثر وتذكرت أبياتا أخرى تناقضه:

“كذب الصديق، لا صديق لميت

لو كان يصدق مات حين يموت”.

لكن الحلاج الذي قدم جسده وروحه على طبق الحب كتب معنى آخر:

“أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرته أبصرتني

وإذا أبصرتني أبصرتنا”.

فالآخر، هنا، مرآة الأنا إلى حد التطابق ووحدة الوجود والمصير بالتالي.

وأنشد ابن الفارض في بذل النفس لأجل الآخر:

“ما لي سِوى روحي، وباذِلُ نفسِهِ،

في حبِّ منْ يهواهُ ليسَ بمسرفِ”.

ولئن كانت أبيات الحلاج وابن الفارض ترمي إشهار الصوفي لدرجات عشقه الإلهي، فإن اللغة نفسها تطوّع الكلمات نفسها فتكسبهاً صبغة أرضية وتكسيها معنى يشمل الشعور العميق من آدمي إلى آدمي، واستعداد ذاتٍ لبذل أغلى ما لديها لأجل الآخر.

ثمة درس بليغ يقدمه لنا حال البشرية اليوم مع الكورونا، وهو أن المحن إذا ما ضربت موضعاً من جسد العالم ستتداعى له باقي مواضع هذا الجسد، وان العالم الذي تعولم لا مصير لجزء منه، سيئاً أو جيداً، بعيداً عن مصير كامل الجسد.