د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

الزمن الجميل الذي ولى ولن يعود!!

في طفولتنا المبكرة لم تكن الكهرباء موجودة ،كنا نتسامر فوق سطوح المنازل الطينية على ضوء القمر.. ونذاكر على الفوانيس حتى تداعب نسمات الليل أجفاننا ويغلبنا النعاس وننام ولا نصحو إلا على أذان الفجر..ونصلي الفجر جماعة والعصا لمن تأخر أو غاب عن الصلاة !!

ثم نذهب سيرا على الأقدام إلى المدرسة في الصباح الباكر ..

كان للوالدَيْنِ في داخلنا هيبة، وللمعلم احترام ورهبة وعصاه بيده يربي ويجلد ويعلم ولا يستأذن لا أب ولا عم ولا قريب ولا نبكي ولا نشتكي كجيل اليوم ..!!

 كنا نتقاسم معا حبات التمر وكسرة الخبز ونواسي بعضنا في الأفراح والأحزان !!

في رأسي عشرات الأسئلة عن ذكريات الزمن الجميل وأهله الطيبين رغم أنه ماض لن يعود إلا أنه لازال حيا في القلوب!! ؟

لماذا نحن إلى الذكريات ونسترجع صور الماضي الذي عشناه في طفولتنا ومطلع شبابنا ؟

لماذا نحفر الذاكرة وخلاياها الساكنة لاستعادة شريط الحياة الجميلة التي عشناها وهي قد ولت مع بساطتها وسعادتها ؟

ولماذا نصف ذلك الزمن بزمن الطيبين ؟

هل انقرض الطيبون من حياتنا.. ولم يعد لهم وجود ؟ أم هو حنين لزمن ولى مع أهله ولم يبق منه إلا الصور المعلقة في خلايا الذاكرة.. نستعيدها ولكننا نتألم للمشاهد الدامية الحية التي تجري أمامنا اليوم؟؟

هل هو هروب من واقع أليم وأزماته التي تلاحقنا ؟

وما يجري فيه من قتل ودمار وسفك للدماء ونهب وسرقة؟

مع ما يرافقه من موت للضمائر وغياب تام للأخلاق والصفات النبيلة التي حل محلها الغدر والخيانة !!؟ هل تبدل الزمن أم تبدل الناس في هذا الزمن الأغبر؟

هل فعلا خلا زماننا اليوم من الطيبين ؟ أم أننا لم نعد نرى فيه ما كنا نشاهده في الزمن الغابر من سعادة وشهامة ورحمه وبساطة ؟

أم أننا مسكونين دائما بالماضي ؟؟ وهل لازالت المقولة الشهيرة عالقة في أذهاننا

(من ليس له ماض ليس له حاضر ) ؟؟

انه «الزمن الجميل» الذي اتفق عليه الجميع رغم اختلاف أفكارهم ومواقفهم وبالتالي فقد استحق هذه التسمية لخصائصه ولمناخاته وأجوائه التي استطاعت ضبط إيقاع الاختلاف على روح ثقافة التفاهم والتسامح والتعايش المشترك. كان زماننا الستيني عندما كنا أطفالا ككل الأزمان فيه اختلاف الأفكار واختلاف الإيديولوجيات واختلاف المواقف.. لكنه لم يلجأ لحسم خلافاته بالعنف أو الإقصاء والإلغاء أو التكفير أو التجريم والتحريم.. فقد كان زمناً مدنياً بامتياز. كان الطابع القبلي والروح الدينية والثقافة البسيطة والعادات وتقاليد المجتمع الصارمة تحكم المجتمع أو هي الحاكمة لحياتنا اليومية.. وهكذا نشأنا في زمن مدني- قبلي وسطي لا غلواء فيه ولا تطرف. لا نزعم بأنه زمن بلا أخطاء فلم نكن نعيش في «المدينة الفاضلة» التي تخيلها أفلاطون ولم تتحقق.. لكنه زمن جميل في علاقاته البسيطة وعلاقات المحبة والإخوة القادرة على تهذيب العصبية والتعصب مما خفف إلى حدٍ بعيد من حالة الاكتئاب أو الاضطراب!!

أسأل نفسي ما هي ذكريات أطفالنا اليوم التي قد يعودون أليها مستقبلا ؟ وماذا بقي لجيل اليوم الذي يصحو وينام على أجهزة الايباد والهواتف النقالة.. ولا يتحرك من فراشه إلا لمائدة الطعام ثم العودة لفراشه الوثير!!؟؟

ويعيش أسيرا وحيدا مع تلك الأجهزة ..؟؟

جيل يشاهد الموت والرعب في وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزيون وأحيانا على الطبيعة حتى أنها لم تعد تؤثر فيه حتى أنه أدمن عليها!!

تبلدت مشاعره وأحاسيسه ويمارسها عندما يكبر دون أن تهتز له شعرة

وبالمقابل نتاج تلك الشخصية خليط من الطمع والسادية والتلذذ بممارسة تعذيب

الآخرين فقط ليستولي على ما في أيديهم!!

وبقدر ما كان جيلنا صلب الإرادة إلا أنه رقيق المشاعر رحيما عطوفا مع الناس الطيبين وتربى على أيديهم بالحب والتسامح .. يمشي حافيا يخترق الشوك أرجلهم وترتطم أصابعهم بحجارة الطريق حتى تسيل دماؤهم ..ولكنه جيل لا يبكي رغم الألم .. فقط كنا نبكي إذا تفوق علينا رفاقنا في المراكز الأولى وإذا أحرزوا أعلى العلامات العالية أيام الدراسة!!

كنا نسكن بيوتا من طين تسكنها المحبة .. دون مكيفات.. ولا أجهزة رقمية ..ولا فضائيات ولا أنترنت ولا جوالات ...

كنا نشرب من الزير أو من الغروب الجلدية المعلقة في سطوح المنازل وطعمه ومذاقه أطيب مئة مرة من ماء الصحة المعبأ في المصانع!!

النساء يذهبن إلى سفوح الجبال في مواسم الأمطار ليملئن الغروب من الشلالات من ماء ( الكرع ) وهو المفضل لطعمه المميز.. وكان العرب في الزمن القديم يسمونه بالماء القراح!!

وفي موسم الأمطار كانت لنا ذكريات في الأودية والسواقي عندما نتسابق أو نسبح في الغدران.. ثم نصطاد العصافير والطيور المهاجرة في مواسم الحصاد

زمن ولى ولكنه لازال يعزف ألحانه وأشجانه في جدران القلوب ولازالت الذاكرة تردد أصداء وأهازيج الحصاد وطبول الأفراح ومواكب النور وأناشيد الصباح المدرسية .. وترانيم الدعاء والابتهالات في المساجد في المناسبات والأعياد ذكريات ولت لكنها لازالت حية في القلوب!!

عشقك يا وطني لا ينتهي.. ينبت على ثراك كزهور البشام التي تنمو في الشواهق من الجبال النايفات ...كالزهور البرية والرياحين والمشموم الأبيض الذي يزين مداخل البيوت الجميلة.. ولا يضاهي جمالها إلا الأطفال الذين تفتحت أعينهم على ثراك يا وطني ..تماما كزهرة (البيبيش ) الجميلة التي تنبت في الصخر أتطلع إليها ولا أصل إليها ...عندما كانت تقودني خطاي صغيرا إلى وادي مربون الذي يهدر فيه السيل من منتصف الليل حتى الضحى .. ويجلب الطمي والخير للمزارع والحقول ...

نلعب في أطراف الوادي حتى يتراجع تدفق السيل ..نمرح ونتسابق ..وإذا انقطع السيل تظهر السيلة الحمراء كطقعة سجاد بديعة نتسابق عليها ..ونقفز من صاع الحاموره إلى أسفل الوادي..كنت مثل أترابي الأطفال الصغار الذين عشقوا ثراك.. وكنا نلاحق الفراشات الملونة على أطراف السواقي ..وفي فصل الشتاء كنا نصطاد الطيور الصفراء والخضراء والزرقاء والبيضاء وكل الطيور المهاجرة الجميلة التي تحط رحالها في الوادي..أيام موسم حصاد القمح بعد رحلة طويلة عبر القارات والبحار.. نراها وهي تحلق في السماء أسرابا ثم تهبط تدريجيا وتتعلق بأغصان العلوب وتتأرجح معها .. ثم تنتشر في" الأوصار" أو كما تعرف بالبيادر التي تجمع فيها محاصيل القمح من المزارع ..تلتقط ما سقط من حبوب القمح .. .. وفي الصيف تتمدد ألوان الطبيعة الخضراء من حولي أشم رائحة حماط الدخن وذنين السدر بزهوره البيضاء الصغيرة ذات الرائحة العطرية .. وأسمع دوي النحل وهو يجني منها ويبني الشمع ويسكب الرحيق والعسل في خلاياه .. ولا يكاد يخلو بيت في وادي يشبم من جبوح النوب (خلايا النحل )..أشم رائحة السيل وشذى أشجار الجبال التي تطوق مدينتي الجميلة (الصعيد في وادي يشبم ......ذكريات جميلة عشناها ..وقلوب خالية صافية نقية ...كنا نرى كل شيء بالألوان الطبيعية الخلابة .. ذلك عنوان الحياة في زمن كان عشق الوطن هو كل ما يتحرك على ترابه هو عشقنا .. هو كل شيء لنا .. نختزل فيه كل معاني الجمال والبساطة والعفوية وحسن الظن والنية الطيبة والبراءة الممزوجة بالمحبة الخالصة.

وفي الختام لا مقارنة بين جيل الأمس واليوم!!

د.علوي عمر بن فريد