علي قاسم يكتب:
رسالة الجائحة للعالم: تغيروا سريعا أو تبددوا
أخطر ما في فايروس كورونا ليس عدد ضحاياه، بل ما ترتب عليه من تداعيات اجتماعية واقتصادية، لم يتسبب بها مباشرة، فبذور المشكلة أقدم بكثير مما يظن الناس، كل شيء بدأ في القرن التاسع عشر، وتسارع بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح حقيقة مع بداية الثمانينات من القرن الماضي، وأتت كورونا لتنهي التردد والمقاومة التي كانت المجتمعات تبديها ضد “ثورة السيطرة” الرقمية.
قد لا تكون الأرقام مرعبة حتى هذه اللحظة، بالطبع نتحدث عن عدد الضحايا من البشر، إثر إعصار كورونا الذي اجتاح دول العالم، وبلغ 400 ألف فقدوا حياتهم خلال ستة أشهر وبضعة أيام.
قام أكثرنا بمقارنة عدد ضحايا الوباء بعدد ضحايا مرضى السكري والقلب، وحتى الإنفلونزا العادية. لنقتنع أن كورونا ليس أسوأ القتلة، وإن اختلف عنهم جميعا.
ليس عدد الضحايا ما يثير خوف الأفراد والحكومات، بل الارتدادات الاجتماعية والاقتصادية لكورونا هي ما أثار المخاوف.
واجه العالم الجائحة في وقت ليس ككل الأوقات، وقت يشهد بداية تغيرات كثيرة بدأت تظهر في المجتمع، كالتعلم عن بعد، والعمل عن بعد، والصحة الإلكترونية، وتحسين الخدمات اللوجستية، جنت منها شركات التكنولوجيا الكبرى أرباحًا طائلة، حتى خلال زمن الجائحة الذي لم ينته بعد.
ثورة السيطرة
التغيرات لم تقتصر على القطاع الخاص، بل أصابت في الصميم القطاعات الحكومية والصحية وقطاع التعليم، والإعلام والصناعات الترفيهية، التي شهدت تغيرات واسعة على مستوى تطبيق التحول الرقمي وتطبيق الخوارزميات الذكية.
هذه القطاعات، باتت تشكل أهدافا مغرية لعمالقة التكنولوجيا، ويتوقع خبراء أن يؤدي التغيير فيها إلى انقلاب سريع جدا، وعميق جدا في حياتنا.
وتتبع التغييرات نموذجًا محددًا، وتعمل على توفير منصات مؤتمتة لجمع المعطيات، وتحليلها عن طريق المراقبة الإلكترونية، واستخدامها للتدخل في تغيير السلوك البشري.
الرئيس التنفيذي السابق لغوغل، إيريك شميدت، قاد نقاشا حول التغيير المقبل في نيويورك بعد الجائحة، مركزا على الصحة والتعليم والعمل عن بعد. وطُلب من رئيس مايكروسوفت، بيل غيتس، المساعدة في تطوير نظام تعليمي ذكي.
استعدوا من الآن لقبول الحقيقة مهما بدت للبعض منا قاسية وباردة، عالم ما بعد كورونا هو عالم "هاي سيري"
كل شيء بدأ في ثمانينات القرن الماضي، وكان يحدث دون أن نشعر به أو نحسه، وسمى عالم الاجتماع، جيمس بينغير، ما يحدث حينها باسم موحي جدا هو “ثورة السيطرة”، وقال إن هذه الثورة التقنية “بدأت في القرن التاسع عشر، بالإنتاج الضخم، وتوزيع البضائع على مستوى العالم، وتزايد استخدام الأنظمة الإلكترونية فيها لجمع المعلومات والاتصال”.
تسارعت الثورة التكنولوجية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل الدخول في زمن كنا قد وصلنا “للمرحلة الانعكاسية” في “ثورة السيطرة” والمراقبة، حيث تقوم الخوارزميات الضخمة والتقنيات التنبؤية بمراقبة السلوك البشري وأتمتته.
اليوم نجد بين خبراء الاجتماع من يطلق على المرحلة القادمة اسم “مرحلة التحول إلى نموذج أوبر”، مرحلة تستبدل فيها المؤسسات الحكومية بالبرامج الذكية، تماما مثل أوبر التي طورت نظاما بديلا لنظام سيارات الأجرة التقليدي.
“إذا كانت أوبر قادرة على فعل ذلك، الجميع قادر أيضا على فعله” هذا هو شعار المرحلة القادمة في زمن كورونا وما بعده.
الثورة الصناعية التي أوجدت الآلة والسيارة وحتى الطائرة، أحدثت انقلابا في حياة الإنسان، ولكنه انقلاب محدود جدا مقارنة بالانقلاب الخوارزمي الذي أحدثته الثورة الرقمية. وتابع خبراء المقاربات بين البشر والأنظمة الآلية منذ زمن طويل، للوصول إلى نماذج حسابية وتنبؤية متقاربة. وكان لعمل، كلاود شانون، رائد نظرية المعلومات أثر كبير على علماء رأوا أن هناك مقارباتٍ بين الدارات الكهربائية والأنظمة الاجتماعية، ومن أبرزهم، ليونيد هورفيتش، الذي حاز جائزة نوبل 2007 على عمله في “نظرية تصميم الآليات”.
وظهرت نظريات اقتصادية جديدة، نواتها أبحاث أجراها، فريدرش فون هايك، والذي يرى فيها أن تخصيص الموارد في المجتمع يفهم بأحسن صيغة عند معالجته بنظرية الخوارزميات.
وفق هايك، لن يعود للفرد أهمية في إطار العمليات الاقتصادية، لذلك يرى بضرورة ترك قرار تخصيص الموارد للسوق ذاتها، التي هي “معالج فائق للمعلومات”.
مزاد مؤتمت
يرى مؤرخ الاقتصاد، فيليب ميروفسكي، أن الاقتصاديين انتقلوا من توفير ما يريده المستهلك إلى تطوير المنتجات بغض النظر عن رغبة المستهلك.
الاعتقاد السابق وصل إلى ذروته في نهاية العقد الماضي.
دعونا نقدم مثلا عمليا يبسط ما سبق، في الإعلان الإلكتروني، يتم جمع المعطيات المتولدة عن كل زيارة يقوم بها المستخدم للصفحة، لتحلل هذه الزيارات وتُصنف، وتستخدم كل فئة في التصنيف لجذب المستخدم إلى شراء منتج أو خدمة.
هذه العملية يطلق عليها “المزاد المؤتمت”، خلال تحميل صفحة الويب يبدأ المزاد المؤتمت بمطابقة احتمالات سلوك المستخدم المختلفة والخدمات والمنتجات المحتمل أن يشتريها، والهدف هو دفع المستهلك للشراء. ويستخدم هذا النموذج لاستهداف المجتمع كاملًا.
معرفة السلوك البشري، ودراسة الخيارات الأكثر ملائمة، مهمة جدا للأسواق، وهذا يؤكد أن المراقبة التامة، التي يرى فيها البعض تعد على الخصوصية الفردية، ستبقى وتزداد مع مرور الوقت.
علينا أن نروّض أنفسنا من اليوم، أن الأخ الأكبر سيطل علينا من فوق ويراقب كل حركة من حركاتنا وكل قرار نتخذه، كبيرا كان أو صغيرا.
إذا كانت أوبر قادرة على فعل ذلك، الجميع قادر على فعله هذا هو شعار المرحلة القادمة
ستقلل التداخلات الخوارزمية خياراتنا باستمرار، ما يعني قلة الإبداع وندرة الاكتشاف والتعلم، وبجعل تصرفاتنا أكثر توقعًا نصبح أكثر هشاشةً.
دفعت جائحة كورونا البشر للاتصال بصورة أكبر عن طريق الشبكة، وهذا منح بالتالي قوة أكبر للمراقبة وتأثير الخوارزميات، وأضاف مزيدا من السلوك البشري إلى قواعد بيانات السوق.
وغالبًا ما تثير المشكلات الناتجة عن المراقبة التامة جدلا باعتبارها تعد على الخصوصية، خاصة في عملية الإبداع لكن يجب ذكر أهمية الغموض في حياتنا، إذ يدفع الغموض البشر للتساؤل والبحث بشكل مستمر.
الغموض هو المحرك الإبداعي منذ أن وجد الإنسان، الآلاف من الملاحم والأساطير ما كان لها أن تولد لولا اللحظة التي وقف فيها الإنسان عاجزا أمام ظاهرة لا يجد لها تفسيرا.
ما هي اللذة التي ستتولد عن قراءة الإلياذة والأوديسة، لأجيال ترعرعت في ظل التكنولوجيا الرقمية، والتي تلجأ في كل مهمة تستعصي عليها إلى “سيري” بحثا عن إجابة.
بينما يشكل الغموض مساحةً حرةً للسلوك البشري للاستمرار في الوجود، ترى قوى السوق المدفوعة بالخوارزميات في الغموض خطرا يهددها بشكل مباشر.
وأنا أكتب هذا المقال، تدخلت الخوارزميات في النص أكثر من 10 مرات لتقديم اقتراحات لم أطلبها.
استعدوا من الآن لقبول الحقيقة مهما بدت للبعض منا قاسية وباردة، عالم ما بعد كورونا هو عالم “هاي سيري”.