يمينة حمدي تكتب:

متى ترتقي المرأة السعودية منصات القضاء

ليس غريبا أن يثير رفض مجلس الشورى توصية تقدم بها أحد أعضائه لتعيين قاضيات في محاكم الأحوال الشخصية جدلا واسعا في المجتمع السعودي، لكن الخطوة غير المألوفة أن يدعم فقهاء الدين وخبراء الشريعة تطلعات المرأة السعودية إلى اعتلاء منصة القضاء.

ليس من النادر اليوم مشاهدة نساء قاضيات في العديد من الدول العربية، كما أن النطق بالأحكام لم يعد حكرا على القضاة الذكور بعد أن ارتفعت أصوات القاضيات من أعلى منابر المحاكم في معظم دول العالم، وفرضت مطرقة القاضيات أحكامهن على الجميع، إلا أن حلم اعتلاء المرأة السعودية لمنصات القضاء ما زال صعب المنال، في ظل استمرار الجدل حول طبيعتها السيكولوجية التي ينظر إليها على أنها تعيقها عن أداء مهامها كقاضية وتجعل أحكامها متسرعة وهامش أخطائها كبيرا.

وأسقط مجلس الشورى السعودي مؤخرا، توصية تقدم بها أحد أعضائه للمطالبة بتعيين المرأة بمنصب قاضية في محاكم الأحوال الشخصية.


ولم تحظ التوصية التي اقترحها الدكتور عيسى الغيث بموافقة أغلبية أعضاء المجلس، فتم رفضها من قبل لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية.

وسبق أن رفض المجلس توصية مماثلة في عام 2018، تقدم بها أعضاء آخرون، من بينهم فيصل الفاضل وعطا السبيتي ولطيفة الشعلان، التي شددت حينها على أن نظام القضاء الصادر بمرسوم ملكي عام 2008، لم يشترط الذكورة فيمن يتولون القضاء، منوهة بأن ما تتمتع به المرأة السعودية من كفاءات قانونية يخول لها تولي الوظائف القضائية والنجاح فيها بجدارة.

وأرجع الدكتور علي الشهراني، رئيس لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية في مجلس الشورى، سبب عدم قبول التوصية الجديدة إلى أنها تتعلق بالشأن القضائي، وأن الشورى ليس معنيا بتعيين القضاة.

ولفت الشهراني إلى أن المجلس الأعلى للقضاء ينفذ أحكام نظام القضاء، الذي منحه صلاحية اختيار القضاة وإصدار القواعد المنظمة لذلك، وكذلك التحقق من شروط توليهم لهذا العمل وفقا لمعايير يقدرها ويعمل بها المجلس.

فيما علقت الشعلان على قرار الرفض في حسابها على تويتر بقولها “تولي المرأة للقضاء خطوة قادمة وإن تأخرت قليلا أو كثيرا”.

وأكدت الشعلان في تغريدة أخرى أن نظام القضاء السعودي لا يشترط الذكورة، مشددة على المادة الـ31 منه التي نصت على شروط تولي القضاء، كأن يكون سعودي الجنسية بالأصل، وحسن السيرة والسلوك، ومتمتعا بالأهلية الكاملة، ونحو ذلك من شروط تتعلق بالمؤهل العلمي، ولكن لا شيء في النظام البتة يشير إلى الذكورة كشرط لتولي القضاء.


الطبيعة السيكولوجية للمرأة
ورغم أن السعودية عينت في أغسطس الماضي أول دفعة لسيدات يحملن الصفة القضائية للعمل في النيابة العامة في مهمة “ملازم تحقيق”، وهي أول مرتبة في سلم وظائف أعضاء النيابة العامة في السعودية، إلا أن توصية الدكتور عيسى الغيث أحدثت انقساما كبيرا في الآراء في المجتمع السعودي.

وشهد موقع تويتر بوصفه المنبر الأكثر تعبيرا عن آراء الأوساط الاجتماعية في السعودية، تباين ردود الفعل، إذ عبر البعض عن رفضهم جملة وتفصيلا لاعتلاء المرأة للقضاء، عازين ذلك إلى أسباب دينية، فالشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم فيها من الأحاديث النبوية، ما يوحي بعدم جواز تولي النساء لمناصب القضاة، بل ويحذرون من عواقبه على الأمة.

وقال أحد المدونين على تويتر “لا يجوز شرعا تولي المرأة لمنصب القضاء فإذا كانت الدول الأخرى خالفت الشرع فهل علينا أيضا أن نخالفه، اتقوا الله”.

وأيده آخر بالقول “لم نسمع عن صحابية جليلة أو من السلف عملن في القضاء، رغم رجاحة عقولهن وعلمهن، وهذا دليل على أن القضاء مناط بالرجال، لما فيه من أمور تتطلب إبعاد العاطفة عند النطق بالأحكام”.

نساء مع ونساء ضد

لم يقتصر الاعتراض على جلوس المرأة على كرسي القضاء على الرجال فحسب، بل إن الكثير من المدونات رفضن الفكرة، إذ علقت إحداهن بالقول “أنا عن نفسي لا أحبذ وجود المرأة في القضاء ولا في المجال الأمني لأن ما وراءهن إلا وجع الرأس… أعتقد أن مجال المال والأعمال هو الأفضل بالنسبة لهن…”.

وقالت مدونة أخرى “ماذا سيفيدني دخولها مجال القضاء أو الفضاء فأكثر معاناتي هي من المراجعات التي تشرف على دوائرها موظفات وجنس النساء، لكن طبعا مع استثناء البعض منهن”.

واعتبرت أخريات أن رفض تولي المرأة لمنصب القضاء أمر محبط، وأنه إقصاء جديد للسعوديات من تولي المناصب العليا في البلاد.

وفي هذا السياق قالت مدونة “أشعر أن بعض السيدات يحتجن إلى ثقافة ذاتية لمعرفة ما لهن وما عليهن، فالنظام السعودي في صيغته الحالية يشترط أن يكون القاضي سعودي الجنسية، وهذا يعني كلا الجنسين، وكامل أو ناقص الأهلية تقال لكليهما لغويا… فطالما سُمِح للسيدات بأن يتخصصن ويعملن في سلك المحاماة فإنه بالتدرج بإمكانهن أن يصبحن قاضيات”.

وعبرت مدونة أخرى عن استيائها من رفض مجلس الشورى للتوصية بقولها “هناك من يسخّرون الدين مطية لأهوائهم فيلجؤون إلى المذاهب الفقهية متى ناسبهم ذلك ويستشهدون بها.. وينكرونها متى ما أرادوا أن يهاجموك! ومثل هؤلاء لا يُعتد برأيهم، لأنهم إما جهلاء أو مرتزقة”.

فيما أبدت الدكتورة إقبال درندري عضو الشورى، تعجبها من رفض مجلس الشورى للتوصية بكتابة تغريدة على حسابها بتويتر قالت فيها “الكثير من دول العالم، ومنها الإسلامية والعربية عينت النساء قاضيات، بل ورئيسات قضاء ونحن مازلنا بانتظار تعيين قاضيات فقط!”.


أما على أرض الواقع فقد فتح موضوع تولي المرأة لمنصب القضاء، نقاشا آخر مع مجموعة من الباحثين في الفكر الإسلامي الذين يرى معظمهم أن الوقت قد حان لتغيير الكثير من الأعراف الاجتماعية التي لا تزال تفضّل الذكور على الإناث في العديد من المجالات، من دون إتاحة الفرصة للنساء لإحداث تغيير في مجتمعهن.


ويرى الشيخ أحمد قاسم الغامدي، الباحث الشرعي ومدير عام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة سابقا، أن عدم السماح للمرأة بالعمل قاضية، قد بني على آراء بعض الفقهاء الذين رأوا أنه لا يجوز للنساء تولي القضاء، لأن القضاء جزء من الولاية العامة، وهذه مجرد اجتهادات وآراء فقهية، تقابلها أيضا آراء أخرى أجازت ذلك، وجميعها اجتهادات وليست مبنية على نص قطعي، لكن ذلك لم يحل دون اقتحام النساء في السعودية للعديد من القطاعات التشريعية والتنفيذية والعسكرية، كما عملن أيضا في عدد من فروع النيابة العامة وكاتبات عدل ومحاميات وفي عدد من المهن الأخرى، التي تندرج ضمن السلك القضائي.

وقال الغامدي لـ”لعرب”، “مجلس الشورى رفض توصية عمل المرأة في القضاء حسبما علق على ذلك رئيس اللجنة، لأن الشأن القضائي ليس من مشمولات اختصاصه، فالشورى لا يناقش إلا ما يتعلق بالشأن المالي والإداري، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على استقلالية القضاء السعودي، ولا يبدو لي أن سبب الرفض هو حرمان المرأة من العمل في القضاء أو لعدم الثقة في قدراتها أو لتوجه فقهي يرى عدم جواز عملها في القضاء، بقدر ما هو إجراء إداري طبيعي، يتعلق بكون مجموعة من أعضاء الشورى يرون أن هذا لا يدخل ضمن الاختصاصات المنوطة بعهدتهم، كما أن الشورى حين يؤيد رأيا يكتفي بتأييده، ثم يقدمه إلى ولي الأمر ليتولى دراسة حيثيات هذا القرار، وهو الذي يقرر ما يراه مناسبا للصالح العام، لأنه الأعلم بالمصلحة العامة”.

وأضاف “هناك الكثير من المؤشرات على أن آفاق عمل المرأة ستصبح أوسع في المستقبل، خصوصا بعد النجاح الكبير الذي حققته في مختلف المجالات ولفتت أنظار العالم، حتى جعلها ذلك أنموذجا مثاليا يحتذى به، وهذا باعتقادي أكبر مؤهل لها للدخول إلى السلك القضائي، وأنا متفائل بأن ولي الأمر مستقبلا سينظر في فتح المجال لدخول النساء إلى السلك القضائي، إذا توفرت لديهن المؤهلات والتدريب الكافي لأداء هذه المهمة الحساسة”.

وختم الغامدي بقوله “الحكومة السعودية تدعم مشاركة المرأة في جميع القطاعات، والأكيد أن المرأة نفسها لم تعد تنقصها الجدارة والكفاءة، كما أن عمل الجنسين في مجال القضاء يعتبر أمرا نافعا وليس ضارا، حيث يمكن من خلاله إضفاء فروق إيجابية على المنظومة القضائية والقانونية، تخدم الصالح العام للمجتمع السعودي”.

جدل التحريم والتحليل
باحثون يرون أن الوقت قد حان لتغيير الكثير من الأعراف الاجتماعية التي لا تزال تفضّل الذكور على الإناث في العديد من المجالات،
باحثون يرون أن الوقت قد حان لتغيير الكثير من الأعراف الاجتماعية التي لا تزال تفضّل الذكور على الإناث في العديد من المجالات
من جانبه استنكر الباحث الشرعي عبدالله العلويط طبيعة التساؤل بشأن مدى أهلية المرأة لتولي القضاء قائلا “الأفضل أن يكون التساؤل: هل الذكورة شرط للقضاء؟ فهذه هي العبارة الأنسب لأننا لا نقصد المرأة لذاتها لتكون قاضية، وإنما من توافرت فيه الشروط والصفات لمنصب القاضي من رجل كان أو امرأة، فإنه يكون قاضيا ولا تعاق المرأة بسبب أنوثتها”.

وأضاف العلويط لـ”العرب”، “هذا الموضوع من أبرز المواضيع الجدلية الفقهية في عصرنا الحاضر، ومن أوجد شرط الذكورة هم القدماء وليس النص الشرعي، فالنصوص لا يوجد بها ما يشترط الذكورة في القضاء أو يحرم تعيين الأنثى، والفقهاء المعاصرون ما زالوا للأسف في تبعية للقدماء إلى الآن ويرددون كل ما يقولونه، وأعتقد أن فقه العصر لم يظهر بعد. ولو حرّم تولي المرأة القضاء بنص صريح، فلا بد أن نتأكد أنه ليس واقعا على ظرف اجتماعي معين فالنصوص لا تؤخذ بحروفها وإنما بمعانيها ومراميها”.


واستدرك “لكن أبرز ما يستدل به القدماء ومن تبعهم هو حديث ’لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة’ وهذا ضعيف بسبب مكانة الراوي، ولو صح فإنه لا يعارض الحكم العقلي البدهي وهو أن من كان أجدر بالقضاء علما ودراية فهو أحق ممن هو دونه، فهذه بدهية عقلية، وإذا تعارضت الرواية مع أمر صريح عقلي قدم العقل، فلا تعارض بين عقل صريح ونص صحيح، فكيف تقصى وهي أعلم من الذكر لمجرد كونها أنثى؟ فمن هذا المنطلق أجيز توليها ـ أقصد منطلق مصادمة الشريعة للبدهيات وتنزيهها عن ذلك ـ أكثر من كونه حقا مشروعا للمرأة فلا بد أن نكون دقيقين، وبالتالي فالحديث ضعيف، أو يحمل على وجود رجل أعلم منها، فهو مثل حديث ’لا ميراث لقاتل’، فيحمل على القاتل المعتدي وليس كل قاتل كالقاتل خطأ، فهنا لم نأخذ بعموم اللفظ فكذلك في لفظ امرأة التي في الحديث”.

وتابع العلويط موضحا “كذلك ’حديث الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله’، فالمراد بالأرملة هنا الأرملة الفقيرة وليس كل امرأة حتى ولو كانت غنية، وكلمة ‘امرأة’ في الحديث مثلها، فليس كل امرأة وإنما المرأة غير الجديرة بالقضاء، ومن يتذرع بالقدماء فيجب أن يعلم أنهم أجمعوا على جواز نكاح الطفلة التي دون الثانية عشرة فهل يؤخذ بقولهم هنا؟”.

وتنقسم المواقف في السعودية حول ما إذا كان ينبغي للمرأة أن تعمل في القضاء، بل وتختلف بشأن العديد من القضايا الأخرى المتعلقة بالدين الإسلامي والمرأة، وهو اختلاف أيضا في وجهات النظر حول نمط الحياة غير المألوف الذي تطالب به البعض منهن، لكن من الواضح أن الكثير من الأفكار قد بدأت تتغير بسرعة كبيرة في السنوات الأخيرة، بعد أن سمحت الحكومة السعودية بأمور كانت حتى وقت قريب محظورة على النساء، لعل أبرزها تمكينهن من قيادة السيارة وحضور النشاطات الفنية والمباريات الرياضية، علاوة على إمكانية تقلدهن مناصب في عدة مجالات لطالما احتكرها الذكور.

ونجحت المرأة السعودية في عدة مجالات وفي السياسة، والسلك الدبلوماسي، فضلا عن ذلك أصبح من الممكن للسعوديات تولي وظائف مثل رئاسة تحرير الصحف أو تقديم برامج حوارية في التلفزيون، ولكن ذلك لا يعني أن كل فئات المجتمع السعودي ترحب بانتقال المرأة من عالمها التقليدي الذي يتمتع بخصوصية كبيرة، ليصبح أكثر حداثة وعمومية.

والسؤال الذي يبقى مطروحا في النهاية: هل هناك فعلا علاقة شرطية بين جنس القاضي والأحكام العادلة أو الظالمة؟