محمد أبوالفضل يكتب:

الحوار المصري من تركيا إلى إثيوبيا

تواجه مصر أزمتين حادّتين الآن، إحداهما مع تركيا بسبب تدخلاتها السافرة في ليبيا، وانتهاكاتها المتكررة في شرق البحر المتوسط، والأخرى مع إثيوبيا جراء شروعها في بناء والبدء في ملء سد النهضة من دون اتفاق ملزم يحفظ حصتها في مياه النيل.

اختارت القاهرة المواجهة مع أنقرة والضغط عليها كي تتخلى عن سلوكها العدواني وتتراجع عن رعاية المتطرفين، بينما تصرّ على التفاوض مع أديس أبابا حتى آخر نفس، ولو لم توقف إجراءاتها المتعنتة في السد، ما أثار تساؤلات كثيرة بشأن اختيار مصر لطريقين مختلفين في الأزمتين، في حين تبدو النتيجة واحدة.

تكاد تكون المكونات والمخرجات النهائية متقاربة، فلا تقدّمَ هنا، والتعثر مستمر هناك، ومع أن كلتيهما تحمل تهديدا للأمن القومي، لكنْ ثمّة تفضيل للحوار في أزمة ورفض له في الثانية بشكل لا يتماشى مع تصورات القاهرة التي تميل دوما للهدوء وترفض العنف، وتسعى إلى التوصل لتفاهمات في القضايا الشائكة بدلا من الصدام.

زادت تلميحات بعض المسؤولين في تركيا مؤخرا بوجود حوار سري يجري مع مصر، ومباحثات تقوم بها أجهزة أمنية لتسوية طبخة تنهي الخلافات المحتدمة بين الجانبين، وجرّت هذه المسألة تكهنات بأن العلاقات بين أنقرة والقاهرة في سبيلها لتجاوز كبوتها على غير الحقيقة التي تقول إن موقف مصر لا يزال سلبيا من تركيا.

تختار كل دولة الطريقة التي تراها مناسبة في التعامل مع الدول الأخرى، وتأتي المشكلات من تعارض المصالح وعدم التوصل إلى صيغة تحفظ لكل طرف أهدافه، ويتوقف ذلك على ما تملكه من قدرات وإمكانيات، وما هو متاح من تصرفات وخيارات، ويتحدد المنهج الذي تتبناه على حجم الفرص وآليات التغلب على التحديات.

في حالة تركيا، والتي اتخذت إجراءات تضر بالأمن القومي، لدى القاهرة فرص جيدة تمكنها من التعامل معها بحسم دون اضطرار لقبول سياساتها أو الرضوخ لحوارات طرشان غير مجدية، لأن التجاوزات التي ارتكبتها لا يصلح معها تفاوض، فهي ترفع شعار الرغبة في تطوير العلاقات بيد، وتحمل في الأخرى أسلحة ومرتزقة ومتطرفين.

ترفض القاهرة هذه الطريقة التي تتعارض مع مصالحها، كما أن أي حوار يستلزم انطلاقة من قواعد مشتركة، وحرصا على إنهاء المنغصات، وحل المشكلات التي أدت إلى القطيعة أصلا.

تتمسك أنقرة الباحثة عن حوار مع القاهرة بعدم التخلي عن هيمنتها على ليبيا، أو غطرستها في شرق المتوسط، ولم تقدّم تصورا إيجابيا ينهي احتضانها وحماية جماعة الإخوان الإرهابية. وتعد هذه من المقدمات الرئيسية لأي حوار محتمل تقبله القاهرة، ويتمسك المسؤولون فيها بشروط معلنة تنسجم مع هذه المحددات.

قد تكون إثيوبيا فعلت ما لم تفعله تركيا من مخاطر. فالأولى مسّ تهديدها  فعلا أحد أهم مفاصل الأمن القومي، مياه النيل، ولم تفكر مصر في الحديث عن أي تعامل معها يحمل صرامة عسكرية أو تراجعا عن المفاوضات، بينما ظهرت الخشونة بوضوح مع الثانية، ووصلت إلى حد التلويح بالتدخل في ليبيا لردع إجراءات تركيا.

هناك مجموعة من المبررات تلعب دورا مهمّا في اختيار مصر الحسم مع تركيا والليونة مع إثيوبيا، أبرزها مساحة الحركة المتوافرة. فمع أنقرة تتوافر قطع مطاطة يمكن جذبها في أي من الاتجاهات التي تريدها القاهرة.

وتعتقد أنها سوف تحافظ على مصالحها، بدءا من التشابكات الإقليمية والدولية وحتى لا منطقية التوجهات التركية، التي تثير غضبا عارما في أروقة مختلفة، ما يجعل مصر ليست الخصم الوحيد في المنطقة، وعليها ألا تتحمل بمفردها المسؤولية.

كما أن الطريقة التي تتّبعها تركيا في الهجوم والحوار، تحمل قدرا من الاستفزاز، مقصود منه جر مصر لمواجهة خارج السياقات التي ترسمها لتحقيق الأمن والاستقرار، أو اختبار نواياها ومعرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه للتفاهم مع أنقرة، خاصة أن هناك حرصا ضمنيا مشتركا على ألا يأخذ الصدام مسلكا مباشرا.

تسعى القاهرة للتعاطي مع الإجراءات التركية بصورة جماعية من خلال تحالفها مع دول عديدة في شرق المتوسط، ووجود مصالح لقوى كثيرة في ليبيا، وعلى كل دولة تقوم بالدور المناسب، طالما أن أنقرة لم تتجاوز ما تراه مصر خطوطا حمراء.

تختلف المسألة في حالة إثيوبيا، فالأزمة معها ثنائية، وفي أسوأ الأحوال ثلاثية إذا تبنى السودان موقفا مؤيدا للسد، ومع اقتراب رؤية الخرطوم من موقف القاهرة، أصبحت الأزمة منحصرة في وجهتي نظر فقط، ولا علاقة لأطراف إقليمية أو دولية قوية بمفاصلها، كما أنها أزمة فنية حلها يأتي بالحوار والنقاش.

ربما تكون التصرفات الإثيوبية تريد أن تخرجها عمدا من هذا الإطار، غير أن مصر تتمسك به. وفي أحلك مراحلها لم يتم الابتعاد عن منهج المفاوضات، وكلما سدّت أديس أبابا طريقا مدت القاهرة يدها لفتح آخر، وامتنعت عن تبني إجراءات تساعد على المزيد من الانسداد، تجد فيه أديس أبابا ملاذا لها.

أقصى ما يمكن عمله في الوقت الحاضر أن تخاطب مصر المجتمع الدولي، وتحاول توظيف أدواتها الدبلوماسية للضغط على إثيوبيا، وتعلم أن النتيجة السياسية غير مرضية، والإعلان صراحة عن استخدام الخشونة ربما تكون تكلفته عالية.

وتعلم أيضا أن الحوار المستمر مع أديس أبابا، ومضى عليه نحو عشر سنوات، لم يفض إلى انفراجة ملموسة في مفاوضات تبدأ بالتفاؤل وتنتهي غالبا بالتشاؤم، لكن لأن قدرتها على المناورة بأدوات أخرى محفوفة بمخاطر تظل متمسكة بالحوار.

لوّحت مصر أكثر من مرة بالتدخل العسكري في ليبيا، واستعرضت جاهزيتها لمواجهة تركيا في أي وقت، الأمر الذي يؤكد أنها ليست مرغمة على القبول بحوار لن يؤدي إلى رفع يد أنقرة عن الملفات التي تنخرط فيها، ولن يقود إلى اتفاق ينهي القضايا الخلافية معها.

اتجهت تركيا للإشارة إلى ورقة الحوار لأجل الانحناء للعواصف، ومحاولة استهلاك المزيد من الوقت لترتيب الأوضاع في ليبيا، والتجهيز لخطوات جديدة.

ففي الوقت الذي ظهر خطابها دسما مع القاهرة لم تبد رغبة لتغيير موقفها من القضايا المختلف حولها، أو تحقق دعواتها للحوار، والتي تطفو من وقت لآخر، تحولا في موقف مصر الذي سيبقى حاسما مع تركيا وليّنا مع إثيوبيا حتى إشعار آخر.