مصطفى النعمان يكتب:

هل ينجح تسريع "اتفاق الرياض"؟

أكرر ما كتبت كثيراً في هذه الزاوية، وما صرحت به مراراً بأن "اتفاق الرياض" الذي تم التوقيع عليه في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 تمت صياغته على استعجال، من دون قناعة الأطراف اليمنية ببنوده، لأنه أسقط الشعارات التي رفعوا منسوبها خلال السنوات التي سبقت التوقيع، ومن خلالها رفعوا سقف تطلعات من صدقوها.

ولما كان هذا هو الحال، فقد كان من المحتم أن تواجه تنفيذه عراقيل بعضها موضوعي، والآخر يرتبط بطبيعة العلاقات الشخصية والمناطقية والسياسية بين الأطراف المناط بها تطبيقه.

فرضت الظروف التي سبقت التوقيع على الاتفاق أن يستخدم المسؤولون السعوديون مكانة المملكة المعنوية للضغط على الطرفين (الرئيس عبد ربه منصور هادي والمجلس الانتقالي) كي يقبلا بالصيغة المقترحة من الوسيط السعودي، بعد تعذر جمعهما على طاولة واحدة لمناقشة التفاصيل.

وإذا كان التوقيع تم بطموحات سعودية توقعت ارتفاع الموقعين إلى منسوب وطني أعلى، يدفع بالموقف السياسي الشامل إلى أفق إيجابي نحو السلام بعد انسداد كل مسارات التحولات العسكرية الحاسمة التي تنهي الحرب لمصلحة أي طرف، فإن الواقع فرض نتيجة مختلفة.

دفع عدم التوصل للنتيجة المتوخاة من "الاتفاق" أو جزء منه إلى توجيه دعوة ثانية للطرفين الموقعين للحضور إلى الرياض، ولم يحدث في جولة المفاوضات هذه أي اختراق، عدا ما صار يعرف بـ "آلية التسريع لتنفيذ الاتفاق" التي أعلنتها المملكة في 29 يوليو (تموز) 2020، وبموجبها تمت إقالة الحكومة وتسميتها حكومة تصريف أعمال، على أن يتم الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة خلال 30 يوماً، وكذلك تعيين محافظ لعدن ومدير للأمن فيها، وبعدها غادر الجميع لقضاء فترة العيد مع أسرهم.

عاد ضيوف (الريتز) مرة أخرى إلى الرياض، وأضيفت إلى القائمة بعض الشخصيات المثيرة للجدل في مسعى جديد لتخفيف حدة الخلافات، وبهدف البدء في البحث عن وسائل لإنقاذ "الاتفاق"، والتفاهم حول تنفيذ البند المتعلق بتشكيل الحكومة، بعد تسريبات متوالية عن توزيع الحصص بين الفرقاء.

ومرة ثانية خابت الظنون في تجاوز العقبات التي منعت التوصل إلى تسويات في الماضي، وما زالت ماثلة أمام الجميع اليوم، وستظل متحكمة في النتائج مستقبلاً.

العقبة الأولى هي أن قرار الطرف الذي يمثل "الشرعية" لا يتحكم فيه الرئيس هادي منفرداً، بالرغم من قدرته على عرقلة أي اتفاق يشعر معه بانتقاص صلاحياته، وخير دليل على ذلك هو الشلل الذي تسبب فيه غيابه، فعطل كل الإجراءات التي تحتاج إلى رضاه، وليست مخفية عن العيان الصراعات التي تدور بين مكوناته، إلى حد أن أحداً منها لا يمكنه ادعاء أحقية التمثيل الكامل للجهة التي من المفترض أن يكون ممثلاً لها، والمؤتمر الشعبي العام أبرز هذه المكونات، لأن قيادته متوزعة الولاءات والتوجهات.

العقبة الثانية أن "الاتفاق" منح المجلس الانتقالي الجنوبي مشروعية داخلية وإقليمية ودولية، إلا أن ذلك لم يكن وليس كافياً كي يصبح الممثل الجنوبي في التوليفة الحكومية القادمة، فبدأت الأصوات الجنوبية الموزعة في ارتباطاتها تعلو مطالبة بحصة في الحكومة القادمة، وهذا الموقف يعيد إلى السطح قضية أساسية كان من المهم أن تسبق "الاتفاق"، وهي السعي إلى توحيد القوى الجنوبية التي تتضارب أهدافها بين من يطالب بالانفصال ومن يدعو لاستمرار الوحدة، وبين هذين الشعارين تضيع رغبات الناس الحقيقية.

العقبة الثالثة أن الحقائب الوزارية تمت مناصفتها بين الشمال والجنوب، وداخل هذين النصفين جرت عملية توزيع أخرى من المنطقي أن تقتسمها الأحزاب شمالاً، وهادي ومؤيدوه مع المجلس الانتقالي جنوباً، وهي حسبة معقدة يصعب معها إرضاء الجميع، لأن عدد الحقائب الذي افترضه "الاتفاق" لضمان كفاءة الأداء لا يمكنه أن يشبع جشع الأحزاب، مهما بالغت في مزاعمها بعدم الاكتراث بهذه القضية.

العقبة الرابعة تتمثل في اشتداد التنازع على أحقية التمثيل الجنوبي، واعتماد حشد الناس في الساحات ورفع الصور واليافطات كمؤشر على التواجد السياسي، وهي وسيلة لا يمكن الركون إليها في تقدير الأحجام الواقعية، لكنها في المقابل تسهم في مزيد من الاستقطاب داخل المجتمع، وتوسع الفجوة بين متصدري المشهد.

العقبة الخامسة هي عدم وجود قيادات تمتلك قاعدة وطنية، فغالبيتهم وضعتهم الأقدار في الصدارة دونما كفاءة ولا قبول شعبي، ولولا الظرف الاستثنائي الذي تمر به البلاد وحاجة الإقليم إلى سد الفراغات بمثل هذه الشخصيات، لما كان معقولاً أن نسمع بها أو نراها تدير الشأن العام بهذه الصورة العبثية وبخفة غير مسبوقة في تاريخ اليمن، منذ قيام الثورة في 26 سبتمبر (أيلول) 1962.

العقبة السادسة هي أن الحديث المجازي عن "الأحزاب" في إطار الشرعية وفي إطار مشاورات (الريتز) لا يمكن التعويل عليه، لأن تمثيلها صار حكراً على شخصيات تدير الشؤون الحزبية من منظور مصلحة ذاتية، وهذا ليس أمراً جديداً تسببت فيه غربتهم عن الوطن وابتعادهم عن كوادرهم وانقطاعهم عن العمل التنظيمي، ولكنها عادة متأصلة في طريقة إدارة العمل الحزبي.

بعد هذا كله، فإن ما غاب عن ذهن ضيوف "الريتز" أنهم لم يلتفتوا إلى أن الأوضاع المعيشية في كل المحافظات "المحررة" تعاني عجزاً كاملاً في كل الخدمات، وشللاً في أداء الأجهزة الحكومية وانقطاع الرواتب، وهي قضايا لا تشكل جزءاً من انشغالات "الشرعية"، ولا يهتم بها الضيوف ولا يبحثونها في لقاءاتهم اليومية داخل بهو الفندق أو داخل قاعات الطعام، ناهيك عن تجاهل أوضاع أفراد الجيش والطلبة والمرضى، فكثيرون منهم ينشغلون بالبحث عن ضمان تثبيت موقع في الحكومة القادمة، حتى وإن كان المواطن العادي لا يقيم لهم ولها وزناً في ميزان تحقيق طموحاته البسيطة التي لم تعد تتجاوز تأمين لقمة عيش.

المقيمون في (الريتز) ينتظرون عودة الرئيس من رحلة علاجية كان من الممكن تدبيرها في إحدى مستشفيات الرياض، وهم عاجزون عن اتخاذ أي قرار أو موقف، ولا بد أنهم يشعرون بالضياع إلى حين عودته ليحسم أمر تشكيل الحكومة، وهذه الحيرة الجماعية دليل وهن "الشرعية"، وأن مكوناتها ما زالت تعيش الحال العربية المزمنة، بإحالة كل قضية وأزمة وحيرة إلى "الرئيس" ليقرر، وما عليهم إلا القبول بكل ما يراه صالحاً له ولهم وللوطن.

مدخل الحل لكل أزمة وطنية هي أن يقف أصحاب الرأي بجدية وشجاعة أمامها من دون مجاملات ولا نفاق ولا تزييف للواقع، وأن يكون البحث بعيداً عن فكرة المناصب ونسب التمثيل، وإلا فسيبقى البلد في حال تيه كبرى.