د. ساسين عساف يكتب:
إضاءات على القرار الماروني بشأن دولة لبنان الكبير
وحدة القرار الماروني بشأن دولة لبنان الكبير وحدة إفتراضية لا إسناد تاريخياً أو واقعياً لها. لدينا وفرة أدلّة على ذلك، ننتقي منها:
- في العام 1913عمل خيرالله خيرالله على التحضير للمؤتمر العربي في باريس الذي تلاقت فيه ثلاثة تيّارات:
- تيار توسيع حدود الجبل تحت الحماية الفرنسية.
- تيار وحدة سوريا تحت الحماية الفرنسية مع دستور دولة إتّحادية.
- وحدة سوريا من منطلق قومي عربي باعتبار عدم وجود أمّة سورية منفصلة بل أمّة عربية تشكّل الوحدة السورية نواتها.
ضمن هذه التيارات كان ثمّة موارنة..
عالج خيرالله خيرالله قضية الوحدة العربية واقترح لها الحلول.
دعا إلى استقلال لبنان مع العرب لا ضدّ العرب أو عنهم. يقول: " "بعض الأحيان يتّهمنا إخواننا العرب بالإنعزال فليأخذوا بعين الإعتبار أنّ لبنان إذا كان بوضعه المميّز لاستطاع أن يقدّم للقضية العربية خدمات جلّى. فهو إذا استقلّ يصبح بإمكانه أن يقدّم المزيد من الخدمات. فليهتم في الوقت الحاضر كلّ قطر عربي بتحقيق استقلاله دون إلحاق الضرر بجيرانه والنتيجة ستكون حتمية وأكيدة: كلّ يعمل لنفسه والإستقلال للجميع." (من كتابه معضلة الشرق (Le probleme du Levant) عن سمير خيرالله ، خيرالله خيرالله الصحافي والمفكّر والمناضل، ص.25)
- في العام 1919 تاريخ انعقاد المؤتمر السوري العام في 2 تموز وبدعوة من فيصل شارك فيه عدد من المسيحيين "وفي مقدّمتهم كاهن ماروني هو الأب حبيب اسطفان الذي برز كخطيب مفوّه يتمتّع ببلاغة ملهبة أثارت حماس الجماهير الإسلامية التي استمعت بإعجاب وحيرة إلى رجل دين مسيحي من الجبل القريب يتحدّث عن الوحدة العربية والإستقلال الوطني.."
Edmond Rabbath: La formation historique du Liban))
- في العام 1919 أسّس خيرالله خيرالله الحزب الإشتراكي العربي أو الحزب الإشتراكي، الفرع العربي من الأممية العالمية، وفي العام نفسه عقد اجتماع مشترك بين الحزب الإشتراكي المصري والحزب الإشتراكي العربي أسفر عن تأسيس التحالف الإشتراكي الشرقي واختير خيرالله أميناً عاماً له، وفي العام نفسه، كما يقول الدكتور سمير خيرالله، " وجّه رسالة إلى أمين عام عصبة الأمم من مئتين وثماني عشرة صفحة يشرح له فيها عراقة الحضارة العربية ودور كلّ من بغداد ودمشق وبيروت في التاريخ وكيف أصبحت اليوم مدمّرة بسبب الحرب العالمية الأولى وهي تستحق الآن الإستقلال وتقرير مصيرها بنفسها." (سمير خيرالله، خيرالله خيرالله 1882-1930 الصحافي والمفكّر والمناضل.. ص.17) وفي العام نفسه شنّت عليه جريدة "الهدى" النيويوركية هجوماً صاعقاً بسبب آرائه متّهمة إياه بأنّه يريد التضحية بالقضيّة اللبنانية (المطالبة بدولة لبنان الكبير) من أجل القضية العربية.(خيرالله خيرالله حول المسألة الإجتماعية والتربوية في سورية، ترجمة سمير الحايك وميشال أبو فاضل ص.21)
- في العام 1919 يسجّل موقف مخالف لتطلّعات البطريرك الحويك إتّخذه سبعة من أعضاء مجلس إدارة جبل لبنان الذين تحوّلوا من مطالبين بإنشاء لبنان الكبير تحت الحماية الفرنسية في العام 1919 إلى طالبي إستقلال تام بالإشتراك مع الوفد العربي أمام مؤتمر الصلح 1920 وذلك جرّاء مفاوضات سرّية جرت بينهم وحكومة دمشق اشترك فيها سعيد البستاني قائد الجند اللبناني الذي استقال من القيادة بسبب الهيمنة الفرنسية وسعدالله الحويّك شقيق البطريرك والياس الحويك ترجمان المتصرّفية. إنتهت المفاوضات بوضع مضبطة وقّعها من الموارنة كل من: سعدالله الحويّك وخليل عقل شديد وسليمان كنعان.. قبضت عليهم السلطات الفرنسية وتمّ نفيهم إلى أرواد.. توسّط لهم أمام السلطات الفرنسية خيرالله خيرالله وتعرّض لهم حبيب باشا السعد رئيس مجلس الإدارة والمطران اغناطيوس مبارك.
في موقف هؤلاء الأعضاء المضبطة التي وقّعوها محاولات ميثاقية أولى بادر إليها رياض الصلح بهدف إيجاد تسوية بينهم وفيصل تقوم على:
- موافقة الأعضاء على التوقّف عن المطالبة بالإنتداب الفرنسي ورفض الحماية.
- إعتراف فيصل بالإستقلال التام للبنان.
- موافقة فيصل الشفهية على ضمّ مدن الساحل طرابلس وبيروت وصيدا إلى لبنان.
- تسيير الحكم في لبنان بالتنسيق مع العرب.
- "حزب العمّال اللبناني" بقيادة فؤاد الشمالي و "جمعية لبنان الفتى" بقيادة حبيب جاماتي تنظيمان قاما في مصر وجسّدا فكراً مستقلاً معادياً لرجال الدين وعلى رأسهم البطريرك الياس الحويّك. برنامج "حزب العمّال" تتضمّن ما يلي:
- دعوة للخلاص من النير الأجنبي.
- إعتراض على قيام المجلس التمثيلي في لبنان لأنّه يأتمر بأمر سلطة غير مشروعة واعتباره مزيّفاً.
- توجيه رسالة إلى الأمم المتّحدة تحتجّ على الإنتداب الفرنسي وتطالب باستقلال لبنان التام بحدوده الطبيعية.
- في العام 1926 أصدر الشيخ إدوار الدحداح كتاباً بعنوان: "سياسة لا وجدان، بحث في استقلال لبنان الكبير" جمع فيه عدّة مقالات كتبها ما بين عامي 1924 و 1925طرح فيه فكرة إتّحاد لبنان مع سوريا، فكرة الإتحاد السوري، أيّده فيها الشيخ عزيز الهاشم في ظلّ الخلاف الحاد بين أنصار الوحدة السورية وأنصار لبنان الكبير. لقد علّل طرحه بقوله:
" إنّ بناية الإستقلال التي شيّدوها للبنان الكبير في حدوده الحاضرة لا ترتكز على أساس ثابت.." و "بأنّ لبنان الكبير مدعاة للتفرقة الدائمة.." وبعدم وجود "شرط أساسي جوهري وهو رضاء الشعوب عن استقلالها ورغبتها في التمسّك به.." في الوقت الذي "حشرت (في دولة لبنان الكبير) نصف سكان هذه الدولة على الرغم منهم.."
لذلك، يضيف:
- "لا يبرح عن الأذهان أنّ لبنان الكبير لا يؤلّف كتلة واحدة متضامنة.."
- "إنّ لبنان الكبير سواء في حدوده أم في استقلاله مفتعل.."
- "لبنان الكبير لا يعيش إلاّ بقوّة فرنسا.."
- "لبنان الكبير لا يمكنه أن يعيش مستقلاً عن الجسم السوري بالمعنى الذي يرمي إليه غلاة اللبنانيين.."
- "إنّ لبنان الكبير بدأ أن يكون وهماً ثم رسخ في الأذهان بمجرّد التكرار.."
- "الخطأ في نظرية لبنان الكبير عائد على من اعتصم بهذه البقعة بعامل ديني.." من هنا حكمه على الوطن القومي المسيحي كفكرة ضالة لا يجني منها اللبنانيون سوى الضلال..
ثمّ ينهي مطالعته بالحجّة الآتية:
" إنّ الشعوب الكبيرة ذات الحول والطول، ذات الأساطيل والجيوش تصانع وتساير في أمور كثيرة في أمور كثيرة أمّا نحن بفضل من استلموا زعامتنا نريد أن نجابه بكلّ قحة وعدم رويّة هذا العالم العربي.... فإلى متى نثابر على هذه السياسة الخرقاء وإلى أين المصير؟"
- في السياق الوحدوي السوري-اللبناني نضع المحاضرة التي ألقاها أمين الريحاني سنة 1928 بعنوان "روح العروبة"، يقول:
" كنت ولا أزال من دعاة الوحدة السورية-اللبنانية وقلت ولا أزال أقول إنّ الخير الأكبر لوطننا الأكبر لسوريا ولبنان هو في الإستقلال التام وفي الإتحاد التام عاجلاً أو آجلاً في الإتحاد التام الشامل الأقاليم السورية واللبنانية كلّها.." (القوميات ج2 بيروت 1958 ص.8)
- بعد إعلان الدستور تحوّل الخلاف الماروني-الماروني إلى صراع مناصب ونفوذ ومكاسب مادية.
إتّخذ شكل الصراع على السلطة. لم يكن صراع أفكار ومبادئ أو قيم وطنية. لقد تحكّم به منطق المصلحة الخاصة. كتب الرئيس بشارة الخوري:
"اجتمعنا ب (كرامه وعسيران) وسئلت عن موقفي من مسألة العلاقات مع الدول العربية إذا ما وصلت إلى الرئاسة فأجبت: تعاون إلى أقصى الدرجات. أراد الإثنان طلب المزيد من التفاصيل عن موضوع التعاون مثل التوحيد في مجالات التربية والجيش والتمثيل الديبلوماسي. اعتبرت أنّ هذه المطالب تخطت الحدود ورفضت تلبيتها فقالا لي: إنّ زميلك آميل إده قبل كلّ ذلك.." (حقائق لبنانية)
- عام 1936 جرت إنتخابات رئاسية فاز فيها آميل إدّه وقد شكّلت محطة أساسية في الخلاف الماروني- الماروني إذ تجاوز الصراع على السلطة إلى خيارات إنتماء استراتيجي، خيارات هويّة بين تيارين كتب الخوري بشانهما ما يلي:
"أولئك الذين سعوا إلى الإستقلال من خلال إلغاء نظام الإنتداب وأولئك الذين تعاطفوا مع سلطات الإنتداب وحبّذوا استمرار سيطرتها.. ودعا بعض اللبنانيين إلى التعاون مع الدول العربية بينما حبّذا آخرون سياسة الإنعزال" (حقائق لبنانية)
بعد إنتخاب إده رئيساً للجمهورية كان بشارة الخوري والبطريرك عريضة في جبهة واحدة معارضة.
- صيف 1937 أعلن إدّه بعد عودته من باريس أنّ اللبنانيين من أصل فينيقي. واجهته جريدة "النهار" الناطقة باسم الدستوريين آنذاك بدعوة اللبنانيين إلى تحديد خيار من اثنين:
"الفينيقية والدكتاتورية من جهة، والعروبة اللبنانية والديموقراطية من جهة أخرى.." (رغيد الصلح: لبنان والعروبة ص.102)
هذا الإتّجاه الماروني العروبي استمرّ مع نائب المتن الماروني الدستوري خليل أبو جودة الذي يقول: "نحن لا نشكّ في عروبة لبنان ولا في المزايا العربية للبنان.." (المصدر نفسه)
وفي سنة 1938 عقد مؤتمر برلماني في القاهرة من أجل الدفاع عن فلسطين تكلّم فيه أبو جودة باسم الوفد اللبناني قائلا: " اللبنانيون مهما كانت انتماءاتهم المذهبية ليسوا أعداء العروبة.. بل في الواقع هم جزء منها.." (نفسه 113)
وعليه، نعيد فنأكّد إنّ وحدة القرار الماروني بشأن إعلان دولة لبنان الكبير وحدة إفتراضية.
إذا كان الأمر كذلك لدى الموارنة فكيف لنا أن نجيز الكلام على وحدة القرار المسيحيي بشأن دولة لبنان الكبير فنستجرّ إلى مقولة رائجة لا نصيب لها من الواقعية والموضوعية التاريخية تقول: "المسيحيون أرادوا وعملوا لهذه الدولة والمسلمون رفضوها طلباً للوحدة السورية!.."
دليلنا إلى ذلك هذه السردية الموجزة لموقف بعض النخب المسيحية من التوجّه الوحدوي مع سوريا والعرب:
- رشيد مطران سنة 1908 قال بوحدة سورية على أساس اللامركزية.
- ندره مطران أعلن : " لبنان يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من سوريا، ومن الوجهة التاريخية والإتنوغرافية والتجارية لا يمكن تمييزه عنها.. وإنّ طرابلس وبيروت وصيدا وصور لم تشكّل بأيّ حال جزءاً من لبنان.."
- شكري غانم سنة 1917 أعلن الالتزام بوحدة سوريا ووصاية فرنسا وكان يشدّد على المسؤولين الفرنسيين ألاّ يرضخوا أمام مطالب الإنكليز بفصل فلسطين عن سوريا وأنّه لا موجب لوضع حدود بين فلسطين وسوريا.
- فارس نمر رئيس تجمّع الإتحاد السوري ويعقوب صرّوف قالا بفصل سوريا عن الدولة العثمانية وإنشاء دولة عربية كبرى.
- ميشال لطف الله رئيس حزب الإتحاد السوري دعا لسوريا الكبرى الفيدرالية ومن أعضاء الحزب سليم سركيس ونقولا حداد.
- اسكندر عمون سنة 1917، داوود بركات وأمين المعلوف دعوا لانضمام لبنان إلى وحدة عربية مع الإحتفاظ بامتيازاته التي كانت له قبل الحرب.
- ومن هذا الرعيل: أيوب تابت رئيس فرع اللجنة المركزية السورية في أميركا الشمالية ومن أعضائها أمين الريحاني وجبران ونعيمة.
وجورج خيرالله رئيس جمعية سوريا الجديدة وأمينها العام فيليب حتّي.
ومن المسيحيين الداعين إلى الوحدة السورية اللبنانية نذكر على التوالي: داوود مجاعص، جورج صوايا، الياس طعمة، جورج عساف، يوسف العيد، الياس فرحات، نجيب الحداد، نقولا الحداد، نعيم شحادة، سعيد شقير، حبيب اسطفان ، وديع عقل، أمين الحداد، فيليكس فارس، إبراهيم الحوراني
ومن المسيحيين الذين أيّدوا مشروع فيصل الرامي إلى تحقيق الوحدة السورية بما فيها فلسطين والذين انضمّوا إلى الثورة العربية نعدّد:سعيد عمون، مدير تشريفات فيصل، آميل يزبك، سكرتير فيصل، إبراهيم تابت، طبيبه، فريد الخازن، آميل خوري، اسكندر عمون، من مستشاريه، يوسف اسطفان شارك في الوفد الأول لفيصل إلى مؤتمر الصلح، إبراهيم نجار من واضعي سياسة فيصل الإعلامية.
ومن المسيحيين المشاركين في مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة سنة 1936صلاح لبكي، فوزي البردويل، يوسف يزبك، نعمة تابت، أنطوان تابت..
(مجمل هذه الأسماء مستلّة من موسوعة يوسف أسعد داغر التي هي بعنوان: مصادر الدراسة الأدبية، مكتبة لبنان، 2000 أو منشورات الجامعة اللبنانية 1972 توزيع المكتبة الشرقية)
هذه الإضاءات تبرز أن المسكوت عنه في التاريخ قد يكون هو الأصدق من روايات المنتصرين في التاريخ.. لو أنّ هؤلاء الذين أضأنا على قضيتهم كانوا هم المنتصرين لتحوّل الآخرون إلى الصفحة المطوية..
----------
عميد سابق لكلية الآداب والعلوم الانسانية في الجامعة اللبنانية