الحبيب الأسود يكتب:
لماذا استقال الثني وتمسك السراج بالسلطة؟
أقدمت حكومة عبدالله الثني في شرق ليبيا على الاستقالة، لتلبي بذلك دعوات المحتجين الذين خرجوا إلى شوارع بنغازي والبيضاء وطبرق وشحات والمرج ومناطق الجنوب المهمشة، بعد أن تجاهلت حكومة فايز السراج أصوات الغاضبين في غرب البلاد، وقابلتها بتعيين عدد من أمراء الحرب في مناصب سيادية، من باب الإمعان في سياسة التخفي وراء سلاح الميليشيات القادرة على قمع كل من ينادي بالإطاحة بسلطات طرابلس.
في مختلف أرجاء ليبيا، هناك أوضاع مأساوية لا يخرج عنها شيء للعالم؛ الشعب يعاني من انهيار شامل للخدمات الأساسية، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا غاز للطهي ولا وقود ولا سيولة مالية في المصارف ولا رواتب تصل في مواعيدها، ولا قدرة للمؤسسات الصحية على مواجهة فايروس كورونا الزاحف بقوة، وفي المنطقة الغربية هناك، إضافة لما سبق، سيطرة الميليشيات المنفلتة، وانتشار المرتزقة، وتكريس الاحتلال التركي ومؤامرات الإخوان لتحقيق المزيد من التغلغل في مؤسسات الدولة.
في الجنوب لا يمكن الحديث عن وجود دولة، المعاناة مستمرة منذ تسع سنوات، والسكان المحليون يعيشون وكأنهم في بلد آخر خارج إطاري الزمان والمكان، ورغم الثروات الطائلة التي توجد تحت الأرض وفوقها، فإن لا شيء منها يعود إلى أبناء فزان، التي تبدو مجرد مساحات من الرمال المتحركة والواحات العطشى في ركن قصي من الصحراء الكبرى، لا يستفيد منها سوى المهربين العابرين للحدود، ولصوص الذهب والآثار.
في شرق البلاد، يختلف الوضع، حيث استطاع الجيش أن يعيد تكريس مفهوم الدولة، ووجد دعما كبيرا من أهالي برقة، لكن شغل السياسيين كما هو الحال في طرابلس مرتبط بمصالحهم، وبالحوافز التي يحصلون عليها، وكذلك بالفساد الذي ينالون منه نصيبا.
وهذا ما زاد في حالة الاحتقان الاجتماعي، مثلما ساهم في عرقلة الحلول السياسية، وحتى في مسيرة تحرير البلاد من الميليشيات والجماعات الإرهابية.
يحصل النائب في مجلس النواب ومجلس الدولة الاستشاري على راتب شهري وقدره 16 ألف دينار، مع بدل سكن ونقل وحوافز للسفر وإقامة بالخارج، وراتب تقاعدي بقيمة 80 في المئة من الراتب الأصلي، أي أكثر من 12 ألف دينار، ويحصل على امتياز صرف بالعملات الأجنبية بنفس السعر الذي يحصل عليه الدبلوماسيون، فيما أن راتب المعلم مثلا لا يتجاوز 500 دينار، أي حوالي 90 دولارا بسعر الصرف الموازي، وعادة ما ينتظر أشهرا للحصول عليه.
إن الفساد المستشري في مفاصل الدولة الليبية، وفي حكومتي الغرب والشرق، هو فساد ممنهج لا يستفيد منه غير السياسيين وكبار المتنفذين، وهو السبب الحقيقي في استمرار الصراع، فالسياسيون الحاليون لا يريدون الوصول بالبلاد إلى حل للأزمة، ولا إلى انتخابات يخشون أن تدفع بهم إلى خارج السلطة والنفوذ والمال السائب الذي يتجول بيسر بين الجيوب والحسابات المصرفية في الداخل والخارج.
وكما هو الحال في العراق بعد 2003؛ فإن ليبيا بعد 2011 تحولت إلى دولة مافيا، دفعت بالمبعوث الأممي السابق غسان سلامة إلى القول إنها تشهد أكبر عملية نهب، ما يجعلها تعرف ولادة مليونير جديد كل يوم، في حين يواجه الشعب الفقر والعوز والمرض وغياب الخدمات والانفلات الأمني وخاصة في المنطقة الغربية.
في العام 2019 احتلت المرتبة رقم 168 من أصل 180 دولة مدرجة على قائمة منظمة الشفافية الدولية، حيث لم تحصل سوى على 18 نقطة من أصل 100، حسب معيار المنظمة الدولية. وفي السنوات الأربع الأخيرة، أي في ظل حكومة الوفاق، كانت الأرقام متدنية للغاية تراوحت بين 14 و18 نقطة، رغم أن هذه الحكومة تدعي أنها شرعية ومدعومة من الأمم المتحدة.
وخلال السنوات الماضية، تم صرف ما لا يقل عن 200 مليار دولار دون أن يكون لها أي أثر على الأرض أو في حياة الناس، بل العكس هو الصحيح، حيث تم تدمير ما تركه النظام السابق من خدمات وخاصة في مجال الماء والكهرباء والبنية التحتية، وتحولت مناطق كانت عامرة بالحياة إلى أوكار للأشباح سواء بمفعول الحرب أو نتيجة الإظلام التام الذي أصبح ميزة الوضع في بلد يفترض أنه أحد أثرى دول المنطقة.
عندما خرج متظاهرون في طرابلس للتنديد بهذا الوضع والمناداة بحقوقهم، سلط عليهم فايز السراج ميليشياته المسلحة لإرهابهم في ميدان الشهداء وأحياء العاصمة وضواحيها، وكلف الإخوان مرتزقتهم باختراق الحراك لضربه من الداخل، لكن في المنطقة الشرقية اختلف الأمر حيث أوصى الجيش بحماية المحتجين وعدم التعدي عليهم، ولذلك لم يحدث أي اشتباك بين القوات الأمنية والمتظاهرين إلا في إطار محدود، عندما تم اكتشاف مندسين كانوا يحاولون تجيير الحراك الشعبي العفوي لخدمة أجندات الإسلام السياسي الذي لا يزال له بعض الأنصار رغم القضاء نهائيا على ميليشياته وعصاباته الإرهابية المسلحة.
إن أهم درس قدمه حراك شرق ليبيا هو أن لا بديل عن وجود جيش وطني في أي دولة ليحمي الشعب، ويستعمل نفوذه في تقدير المصلحة العامة، وكذلك وجود مرجعية تشريعية تعود إليها السلطة التنفيذية، لكن في غرب البلاد، لا يوجد جيش وإنما ميليشيات متصارعة، ولا وجود لمؤسسة تشريعية، بل إن حكومة السراج ذاتها لم تحظ بثقة البرلمان وهي أقرب إلى حكم عرفي بشروط الأمر الواقع.
تقدم عبدالله الثني باستقالته إلى مجلس النواب بعد أن أدرك أن لا مجال أمامه للاستمرار في منصبه، بينما لا يزال السراج يمسك بتلابيب السلطة مستقويا بالميليشيات والمرتزقة وبالمحتل التركي. لكن الشعب الليبي لن يصمت على حقوقه المسلوبة وثروته المنهوبة، ولن يقبل بالاستمرار في العيش تحت وطأة الفاسدين ممن أطاحوا بأحلامه في الرفاه وسرقوا أمله في حياة كريمة وأعادوه عقودا طويلة إلى الوراء مسترجعين ما عرفه الأجداد من ظلمات النكبة في عهد العثمانيين.