الحبيب الأسود يكتب:
مصلحة السودان أولا
عندما تتجه الخرطوم إلى التطبيع مع تل أبيب، فذلك يعني أن هناك تحولا مهمّا ليس فقط على مستوى السلطات الحاكمة وإنما على مستوى المزاج الشعبي كذلك، حيث أن السودانيين الذين احتضنت بلادهم قمة اللاءات الثلاث في العام 1967، باتوا أقرب إلى فكرة السلام مع إسرائيل، وهذا واقع على من يرفضون الاعتراف به، أن يبحثوا في أسبابه وخلفياته.
مرّ الشعب السوداني بظروف صعبة وأزمات متلاحقة في ظل حكم الإسلام السياسي منذ المصالحة بين الحركة الإسلامية بقيادة حسن الترابي والرئيس جعفر النميري في العام 1983، ثم نهاية حكم النميري في العام 1985، والانقلاب الذي قاده عمر حسن البشير بإيعاز من الترابي على حكومة الصادق المهدي في العام 1989 وما تلاه من صراع على السلطة انتهى إلى دكتاتورية أنهكت البلاد وأدخلتها في حروب عبثية، وفصلت جنوبها عن شمالها، وحرمت الشعب من أبسط حقوقه، وجعلت من السودان الثري الجميل بلدا حاضنا للإرهاب، ومحكوما بلوبيات الفساد، وقامعا للحريات الشخصية والعامة.
أدى إدراج السودان على لائحة الدول الراعية للإرهاب من قبل الولايات المتحدة وما انجرّ عنه من عقوبات بدأ تطبيقها في 12 أغسطس 1993 وبسبب استضافة نظام البشير لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، إلى الضغط المباشر على الدولة التي سبق وأن تعرضت قبل ذلك بخمس سنوات إلى عقوبات أخرى من قبل واشنطن نتيجة تخلفها عن سداد الديون، وفي 3 نوفمبر 1997، فرضت الإدارة الأميركية وبقرار تنفيذي من الرئيس بيل كلينتون، عقوبات مالية وتجارية على السودان، تم بموجبها تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأميركية له، وألزمت الشركات الأميركية، والمواطنين الأميركيين، بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع هذا البلد. بلغ حجم الخسائر السودانية من تلك العقوبات حوالي 50 مليار دولار، وإلى عزلة إقليمية ودولية، وعندما تمت الإطاحة بحكم البشير في 11 أبريل 2019، وجدت السلطة الانتقالية نفسها أمام أوضاع متأزمة اقتصاديا واجتماعيا، إلى جانب الأوضاع الأمنية المتردية، ومؤامرات الداخل والخارج الهادفة إلى إفشال الثورة وإعادة الإخوان إلى صدارة المشهد بدعم من راعيتي الإسلام السياسي قطر وتركيا، وكذلك من إيران التي تهدف إلى التغلغل في المنطقة، وكانت متحالفة مع النظام السابق قبل أن تسوء العلاقات بينهما بسبب دعم السودان لعاصفة الحزم في اليمن.
عندما التقى رئيس مجلس السيادة في السودان، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، في الثالث من فبراير الماضي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عنتيبي بأوغندا، كان يدرك أن هناك تحولات مهمّة تفرض عليه التعامل معها بالكثير من الجرأة، فرفع العقوبات الأميركية عن بلاده لن يتم إلا عبر نافذة تل أبيب، التي تنظر إلى السودان كفاعل أفريقي وعربي مؤثر، وهو اليوم محاط بدول عدة ترتبط بعلاقات طبيعية مع إسرائيل كجنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا وأوغندا وأفريقيا الوسطى وتشاد، إضافة إلى اتفاق السلام مع مصر، حتى أن إسرائيل ترتبط حاليا بعلاقات دبلوماسية مع 41 دولة أفريقية، وقد يرتفع الرقم خلال الأسابيع القادمة إلى 45 دولة.
عندما اتجه البرهان والوفد المرافق له إلى أبوظبي كان من بين أهدافه التوصل إلى اتفاق يحقق جزءا من طموحات بلاده وسعيها إلى تجاوز الظروف الصعبة التي تمر بها، وخاصة من حيث رفع العقوبات عنها وشطب اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتوفير دعم مالي واقتصادي مهم وإعادة السودان إلى المجتمع الدولي كبلد يمكن أن يستقطب الاستثمارات ويحصل على التمويلات اللازمة لمشاريعه.
ثم إن السودان يساهم اليوم في تغيير ملامح المشهد العام بالمنطقة عبر اندماجه في مشروع السلام الذي بات أمرا واقعا بعد الاتفاقيتين الموقعتين بين إسرائيل وكل من دولة الإمارات ومملكة البحرين واللتين ستلحق بهما اتفاقيات مع دول أخرى ضمن إطار التحولات الإقليمية ووفق ما تفرضه مصلحة كل دولة من علاقات وتحالفات وحسابات جيوسياسية.
إن أهم ما يجب أن ينظر إليه الواقفون على الربوة، هو أن مصلحة الشعب السوداني أهم من أي من مواقف أيديولوجية أو شعارات عاطفية أو اعتبارات تاريخية، وأن القضية الفلسطينية لن تحلّ باستمرار عزلة السودان نتيجة العقوبات المسلّطة عليه، ولا بالظروف الصعبة التي يعانيها السودانيون على جميع الأصعدة، كما أن قطار السلام مع إسرائيل أصبح واقعا في دول عدة، انطلاقا من قرارات سيادية للحكومات التي أقرتها، وهو ما يجب التعامل معه كحقيقة على الأرض.