عبدالله بن بجاد العتيبي يكتب:
الخليج والنخب الثقافية الفلسطينية
في السياسة، كما في الاجتماع، حجم المسكوت عنه يكبر ويصغر بناءً على التوافق أو الصراع السياسي أو الاجتماعي، وكثير من القضايا يتم تضخيمها، أو السكوت عنها، حسب الكثير من المعطيات، حتى تأتي اللحظة التي تعبر عن نفسها وتخرج من المسكوت عنه إلى المعلن.
القضية الفلسطينية ظلت لعقودٍ محل إجماعٍ عربي، ولم تزل، ولكن بعض المسكوت عنه بدأ يخرج للعلن ويتداوله الناس، ومع بقاء الإجماع العربي، فقد أصبحت خيارات الدول والشعوب تختلف باختلاف المصالح وتغير أولويات كل دولة وشعبٍ، والتغيير سنة الحياة، والعاجز عن التطور يتجاوزه التاريخ.
إحدى القضايا المسكوت عنها لعقود هي حجم الفساد العريض السائد في أوساط بعض النخب السياسية الفلسطينية، وهو أمرٌ معروفٌ لدى قطاعٍ كبيرٍ من الشعب الفلسطيني نفسه في الداخل والخارج، وهو أمرٌ لا يحتاج للتدليل عليه، وليس هو المقصود هنا، بل الحديث عن نوعٍ آخر من التعامل الثقافي والفكري والأدبي من قبل بعض النخب الفلسطينية مع قضايا دول الخليج العربي والتهديدات التي تتعرض لها من إيران أو تركيا أو غيرهما، هل وقف المثقف الفلسطيني مدافعاً عن هذه الدول وحقوقها؟ هل ساهم بأي شكلٍ في مواجهة أطماع المحتلين الجدد ضد دول الخليج، كما فعل مثقفو الخليج مع القضية الفلسطينية؟ هل كانت قضايا دول الخليج أولوية أو حاضرة لدى المثقفين العرب، وليس الفلسطينيين فحسب؟ هذه أسئلة يجب أن تطرح، لأن حجم المسكوت عنه بدأ يظهر للعلن، وكم كانت لحظة كاشفة حين خرج أحدهم في مؤتمر عامٍ للقيادات الفلسطينية يتهجم على دول الخليج، ويقول إن الفلسطينيين هم من علّموا شعوب الخليج.
هذا صحيح جزئياً، فقد شارك بعض الفلسطينيين مع غيرهم من العرب في بدايات التعليم العام في دول الخليج، ولكن بالمقابل، فإن إحدى نجاحات الشعب الفلسطيني كانت في التركيز على تعليم أبنائهم تعليماً جيداً ليحافظوا على مستقبلهم واستقلاليتهم، وهذا النجاح تقف خلفه دول الخليج العربي، فقد تخرجت أجيالٌ فلسطينيةٌ من الجامعات بأموال الخليج ودعمه ورعايته، من دون منٍ ولا أذى، وكانت هذه الأجيال يميناً ويساراً يقررون الاتجاهات الفكرية التي يختارونها من دون ضغوطٍ ولا اشتراطاتٍ من دول الخليج غير خدمة قضيتهم، بينما كان الآخرون يشترطون، وهو أمرٌ معلومٌ تاريخياً.
تحولت بعض التيارات والأحزاب والحركات الفلسطينية إلى «بنادق للإيجار»، تخدم أجندة جمهوريات عربية، وتقوم بالأعمال القذرة عنها، بما فيها عمليات الإرهاب والقتل والاغتيالات، وتتحدث بعض قياداتها المعروفة بسوء عن قيادات دول الخليج لم تغير دول الخليج سياساتها، وتحملت الأذى لأجل خدمة القضية والشعب الفلسطيني، ويستطيع كل متابعٍ استحضار الأسماء والشخصيات والأقوال.
تفنّن المثقفون الفلسطينيون المنتمون لتلك التيارات في فنون الأدب والفكر والسياسة، وتهجموا على دول الخليج بناءً على انتماءاتهم السياسية والمدارس الفكرية التي ينتمون إليها، ولكن قضايا دول الخليج العربي لم تكن أبداً ضمن أولوياتهم، بل إن بعضهم يدعم علناً المشاريع المعادية لدول الخليج والدول العربية في المنطقة، فيصطفون مع المشروع الطائفي الإيراني، أو المشروع الأصولي التركي، من دون شعورٍ بالحرج أو الخجل، ويشاركون في تلك المشاريع فكرياً وآيديولوجياً.
نسيت غالب النخب الثقافية الفلسطينية المشاركات الفاعلة من دول الخليج في دعم القضية الفلسطينية، فنسوا سريعاً رفقاء السلاح من دول الخليج ومن الجيش السعودي، الذين شاركوا بفعالية في 1948، ونسوا سريعاً الهزائم المتتالية، ونسوا سريعاً الأدوار التاريخية الحاسمة لدول الخليج في حرب 1973، والسياق متصلٌ حين وقفوا مع كل خصم، وأساءوا مراراً لدول الخليج، وشاركوا في التحريض المستمر ضد السعودية، وصولاً إلى وقوفهم مع صدام في غزوه للكويت مطلع التسعينيات في حرب الخليج الثانية.
الحديث هنا ليس عن موقف سياسي واحدٍ أو تصريحٍ شاذٍ، بل هو عن مجمل الإنتاج الأدبي وتياراته ونخبه التي لولا أموال الخليج ورعايته لما ذهبت ولا جاءت، وهم رفضوا «مشروع فهد للسلام»، مطلع الثمانينات، وهاجموه، ثم قبلوا بما هو أقل منه بكثير في «اتفاقية أوسلو»، كما فرح كثيرون منهم بالخميني ونظامه من قبل من بعد، والتاريخ يرصد مستوى التنظير الفكري والإنتاج الثقافي والموقف الآيديولوجي لتلك النخب.
بناءً على هذا وغيره، فقد شرقت بعض النخب الثقافية الفلسطينية بطريق السلام الخليجي، واختيار دول الخليج للسلام طريقاً رحباً للمستقبل؛ مستقبل الشعب الفلسطيني ومستقبل دول الخليج وأجيالها القادمة.
هذا السياق لا يتطرق لخطاب جماعات الإسلام السياسي وجماعة «الإخوان المسلمين»، بل للتيارات الأخرى من قومية وناصرية وبعثية ويسارية في طروحات الفكر والفلسفة والشعر والأدب، لأن خطاب الإسلام السياسي معادٍ لدول الخليج على طول الخط وآيديولوجيته قائمة على التغلغل في دول الخليج بنية الغدر بها وبأنظمتها السياسية، وقد افتضح هذا الخطاب لدى العامة والخاصة، وجعل دول الخليج القائدة والرائدة تصنف جماعات الإسلام السياسي، على رأسها جماعة «الإخوان المسلمين»، جماعاتٍ إرهابية خالصة.
خاض كاتب هذه السطور نقاشاتٍ مع مثقفين عرب حول اهتمام دول الخليج ونخبها وشعوبها بقضايا العرب وقضية فلسطين، وتساءل مع غيره لماذا لا يبدي بعض المثقفين العرب اهتماماً موازياً بقضايا دول الخليج وخصومها، وعلى مدى سنواتٍ لم يقدم أحد منهم جواباً شافياً.
التطاول السيئ على قيادات دول الخليج، التي اختارت طريق السلام، من قبل بعض النخب الفلسطينية السياسية والثقافية قد علّق الجرس، وقدّم تحذيراً فتح المجال أمام إخراج بعض المسكوت عنه للعلن، مع ملاحظة أن بعض هذه النخب عادت عن تطاولها وتصريحاتها وخففت من نبرتها، بعد أن علمت أن طرق الابتزاز القديمة البالية لم تعد تعني شيئاً، وخسائرها أكبر من أرباحها بكثير بالنسبة لها.
طريق السلام الخليجي سيكون أطول عمراً وأكثر نجاحاً، لأنه سيقوم على سلامٍ حقيقي متكامل سياسياً وثقافياً وشعبياً، بعكس طرق السلام السابقة التي ظلت سياسية فقط معزولة عن أي تفاعلات ثقافية أو شعبية، وهو ما سيوضح الفرق ظاهراً بين سلامٍ وسلامٍ.
أخيراً، فقد تغيرت الكثير من المعادلات السياسية والطروحات الثقافية في المنطقة والعالم، ودخلنا عصراً جديداً من لم ينتبه له سوف يفوته القطار.