محمد خلفان يكتب:
الصعود الصيني الدولي.. دون ضجيج
الشيء الذي ينبغي أن يلفت نظر المراقبين في احتفالات الصين بذكرى مرور 71 عاما على تأسيس جمهوريتها الشعبية والذي يصادف الأول من أكتوبر من كل عام، ليس فقط تجربتها التنموية القائمة على الفكر الاشتراكي وإنما قدرة هذه الأيديولوجيا على التكيف مع المتغيرات الاقتصادية الدولية وتحقيق التفوق على المنافسين الآخرين في العالم، خاصة ممن شككوا في استمراريتها.
فالمثير في التجربة التنموية الصينية أنها الدولة الوحيدة في العالم، تقريبا، التي تنتهج الفكر الشيوعي سياسيا وتتبع النهج الاشتراكي اقتصاديا. وبينما انهارت الشيوعية قبل ثلاثة عقود تقريبا، حيث غيرت أغلب الدول المنتمية إلى المعسكر الشيوعي من أيديولوجيتها، اعتقادا منها أن الأخذ بالنظام الرأسمالي أو الفكر الغربي مسألة أساسية وضرورية لتحقيق ثورة تنموية في كل المجالات، لم تفعل الصين ذلك، بل إن الرئيس الصيني شي جين بينغ، يعتقد أن تغيير الفكر سيؤدي لأن تفقد الصين توهجها وروحها، لكن هذا لم يمنعه من دراسة الفكر الرأسمالي.
الرئيس جين بينغ هو من أكبر منظري الاشتراكية الماركسية والمؤمنين بها لكنه أدخل تعديلات على نظامها السياسي والاقتصادي بالطريقة التي تتوازن بين فكرها الأصلي والتغيرات العالمية الجديدة، والصين اليوم بفضل رؤية قيادتها الثاقبة تسجل نجاحا تلو الآخر في مواجهة الأزمات العالمية، فمنذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 وانهيار الأسواق، حافظت الصين على ثبات معدلات النمو لتصبح سمة الاقتصاد الصيني.
الصين اليوم واحدة من أكفأ الدول في إدارة جائحة كورونا التي تجتاح كل العالم، بل أصبحت تطرح لقاحا بالتعاون مع دولة الإمارات، يعتبر حتى هذه اللحظة من أفضلها وفق النتائج المرصودة.
النجاح المستمر للتجربة الصينية في فترة ما بعد الحرب الباردة محل دراسة وتقييم من قبل الكثير من المحللين والدارسين في العالم، هناك من ينتقد، ربما من باب القلق على تجربته، وهناك من يحذر لأنه يرى في ما تنجزه الصين أمرا غير طبيعي، وهناك من يسجل إعجابه بالطريقة التي يفكر بها قادتها، خاصة الممارسات الدبلوماسية الهادئة، التي يطلق عليها “دبلوماسية السلحفاة”.
الجميع اليوم يتفق على قدرة الصين على اكتساب أصدقاء جدد من دول العالم دون الضغط أو التأثير أو اللجوء إلى استعمال القوة الخشنة، سواء كانوا في الشرق أو الغرب. بل إن الصين استطاعت، بفضل تلك الدبلوماسية القائمة على الإصرار والمثابرة، من اختراق مناطق نفوذ، تقليديا كانت ضمن النفوذ الغربي أو الأميركي.
انتهاج الصين في بدايات الانفتاح على العالم سياسة خارجية قائمة على الاهتمام بالجوانب الاقتصادية والتجارية كان في محله، من أجل كسب ثقة العالم. وأحدث انتقالها للتركيز على الجوانب السياسية والإنسانية انقلابا ضد التجربة التنموية الغربية، التي تجسدت مؤخرا في نظرية “العولمة” بأبشع صورها دون الاهتمام بالقيم الإنسانية.
وشكلت جائحة كورنا فرصة مواتية للصين لإعادة تقديم نفسها على المستوى العالمي، من خلال الاهتمام بالقضايا والتحديات التي تواجه الإنسان، وهو ما دفع لتجديد اهتمام المراقبين بالفكر السياسي للتجربة الصينية.
لم يعد الحديث عن الصين يقتصر على التجارة أو استعراض قصص تتهكم على “صنع في الصين”، وإنما الشاغل الأهم الآن، هو البحث في مكانتها العالمية، وتأثيرها في القضايا العالمية المطروحة بطريقة يتفاعل الجميع معها. وكانت قد طرحت مبادرتين عالميتين رئيسيتين؛ المبادرة الأولى اقتصادية: وهي ما يعرف بمبادرة الحزام والطريق، التي تستعيد معها الذكريات التاريخية لطريق الحرير، وفي هذه المبادرة دعت العديد من دول العالم في آسيا وأوروبا للمشاركة، وكانت دولة الإمارات واحدة من الدول الأساسية في المجموعة، نظرا لما تتمتع به من بنية اقتصادية وسياسية ومن مكانة وثقة تستطيع أن تختصر على الصين الكثير من الجهود. وقد بينت زيارة الرئيس بين جينغ عام 2018 والاتفاقيات التي وقعتها بلاده مدى حضور الإمارات في الإستراتيجية الصينية.
أما المبادرة الثانية، فهي إنسانية تركز على المصير المشترك للبشرية. فإذا كانت الأولى من أجل المنفعة المتبادلة للدول الآسيوية وبعض الدول الأوروبية، فإن الثانية تأكدت أهميتها خلال جائحة كورونا عندما وقفت الصين مع العديد من دول العالم في محنتها الحالية، وقدمت مساعدات صحية وإنسانية ومالية في وقت تراجعت فيه دول كبرى عن دورها.
الصين بدأت تسحب البساط الدولي تدريجيا من تحت أقدام الولايات المتحدة، إما من خلال المسارعة لسد الثغرات التي تتركها واشنطن، وإما من خلال اتباع دبلوماسيتها الهادئة في الإقناع بدلا من التهديد واستخدام القوة العسكرية. وربما يكون التفسير الأقرب للمنطق أن المشكلة ليست في المنهج أو الفكر الأيديولوجي الذي تسير عليه أي دولة، بقدر ما هو رؤية القيادة والثقة بما تؤمن به، ويؤكد ذلك ما نراه اليوم من فوضى في دول كبرى، كانت صاحبة قصص نجاح حتى وقت قريب.
الرئيس الصيني الحالي هو صاحب نظرية “الحلم الصيني” التي أطلقها بعد وصوله للسلطة عام 2013، الأمر الذي فسره أغلب المراقبين بأن ذلك الحلم رغم غموضه إلا أنه يقوم على جعل الصين قوة مهيمنة في العالم. وكما يبدو من المؤشرات، استطاع شي بين جينغ من تحقيق جانب كبير من حلمه، حيث تركت الصين بصمتها الاقتصادية والسياسية والإنسانية على العالم، وسمحت للمفكرين والمراقبين بمتابعة خطواتها كي يعلموا إلى أين هي سائرة.