د. ساسين عساف يكتب:
أسئلة المرحلة بشأن النظام السياسي اللبناني
في ظلّ التحالف أو التواطؤ الموضوعي بين النظام والشبكة السياسية المتشكّلة من كلّ الطوائف والمتحكّمة بشؤون البلاد والعباد، أمن الممكن أن تدار الدولة اللبنانية بالتحرّر من هذين النظام والشبكة؟
النظام السياسي اللبناني القائم على عقد بين الطوائف جعل الطائفية المرتكز الأساس في صيغة حكم الدولة أو إدارتها.
كانت وظيفة هذا العقد الأساسية تأمين حقوق الطوائف في الحكم والإدارة "بصورة عادلة" ومحدودة في المدى الزمني بهدف الوصول إلى نظام سياسي متحرّر من القيود الطائفية لدولة عصرية.
هذا الهدف حالت دون بلوغه قوانين لم تبدّل (من أبرزها القوانين الإنتخابية) وإجراءات لم تتّخذ (آخرها تطبيق المادة 95 من الدستور) ، وإصلاحات لم تنجز (من أهمّها الإصلاح القضائي) وممارسات عمّقت المذهبية في صيغة الحكم واقتسام مؤسسات الدولة ومنافعها، ومنها إلى بنية المجتمع.
إضاعة الهدف تحدو على طرح السؤال: هل بات العبور إلى نظام سياسي غير طائفي لدولة مدنية من مستحيلات المرحلة أو من ضروراتها والممكنات؟
القائلون بالإستحالة هم الطائفيون الذين يقيمون وثاقاً لا فكاك فيه ولا انفكاك عنه بين استمرارية الدولة واستمرارية نظامها السياسي الراهن. وهم يجدون في هذا النظام أرقى تعبيرات الديموقراطية التي اتّخذت في معجمهم السياسي صفة خاصة هي التوافقية (ديموقراطية الجماعات التي تدير شؤونها بالتوافق في ما بينها، وتتبادل حق النقض بأوسع أشكاله)
القائلون بأنّ العبور إلى نظام سياسي غير طائفي لدولة مدنية هو من ضرورات المرحلة ينطلقون في موقفهم من نظرة واقعية إلى ما أصاب الدولة من شلل وتفكّك وتحلّل وفساد وإفلاس ونهب منظّم وما آلت إليه أحوال الناس الإجتماعية والإقتصادية والمعيشية السيّئة والتي تزداد سوءاً نتيجة ممارسات شبكة أوليغارشية ميليشياوية مطبقة على الدولة إستفادت من النظام الطائفي التحاصصي لتعظيم ثرواتها وتوزيع ما تيسّر على رجالات الدولة العميقة (قضاء، أمن، إعلام..) إسترضاء لهم واستجلاباً لحمايتهم لها والتغطية على أفعالها وأفعال من يدور في فلكها من أصحاب مصارف ومقاولين ومافيا الصفقات والسمسرات..
القائلون بتصفية النظام السياسي الطائفي ومنظوماته القانونية والأمنية والدعائية كضرورة من ضرورات المرحلة يسألون ما علاقة كلّ هذه المسوءات بمحاسن "الديموقراطية التوافقية" التي يتغنّى بها أهل هذا النظام؟! إنّها في الواقع من مسوءات النظام السياسي الطائفي القائم على هذه "الأوليغارشية النهّابة" التي أباحتها تلك "الديموقراطية الخاصة".
أمّا القائلون بأطروحة الممكنات فهم على دراية بالإشكالات الدستورية فيتساءلون:
كيف تمارس الديموقراطية التوافقية مع المحافظة على انتظام عمل المؤسسات الدستورية؟ هل هي صيغة حكم مستمدّة من مقدّمة الدستور؟ (لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك) هل هي صيغة لحماية التوازن بين الطوائف في النظام والسلطة وحقّ كلّ منها في المشاركة؟ هل هي تخالف النصّ الدستوري؟ (لبنان جمهورية برلمانية) وثمّة مواد دستورية عديدة تؤكّد أنّ النظام السياسي في لبنان هو نظام ديموقراطي برلماني.
هل المادّتان 95 (تمثيل الطوائف في الوظائف الادارية) و 24 (اعتماد المناصفة في الحكومة ومجلس النواب) تجيزان القول انّ النظام السياسي اللبناني هو نظام توافقي؟
هل التوافقية في آليّة اتّخاذ القرار في مجلس الوزراء(المادة 65 من الدستور) بشأن القرارات العادية كافية لاعتماد النظام التوافقي؟ قد لا يكون ذلك كافياً لانّه اذا تعذّر التوافق فيتمّ اتّخاذ القرار بالتصويت الأكثري باستثناء القرارات الأساسية أو المصيرية التي تتّخذ بأكثرية ثلثي أعضاء الحكومة.
أيّ ديموقراطية هي المعبّرة فعلاً عن ميثاقية الدستور؟ ما هي الديموقراطية التي تؤمّن الاستقرار السياسي وتنهي التخبّط في الاجتهاد الدستوري؟
وعليه إنّ اللبنانيين باتوا أمام مشروعين: إمّا مشروع تجاوز الطائفية ولهذا الخيار مرتكزاته الدستورية والقانونية وإمّا مشروع تثبيتها وتطبيقها وفق الأصول كما هي مطبّقة في الدول الفيدرالية ولهذا الخيار كذلك مرتكزاته الدستورية والقانونية فضلاً عن نتائج الممارسة العملية أقلّه منذ البدء بتطبيق دستور 1990
مشروع تجاوز الطائفية يفضي الى نظام لاطائفي لدولة مدنية (تحرير السلطة السياسية من السلطة الدينية)
مشروع تثبيت الطائفية يفضي إلى نظام " فدرالية الطوائف. "
هل الحلّ يكون دائماً بإعادة ترتيب أوضاع الطوائف في السلطة والنظام؟ (وهذا ما حصل في تسوية الطائف بإنشاء مجلس شيوخ أنيط به بتّ القضايا الأساسية فور إجراء انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي)
هل واقع المجتمع اللبناني وخصوصياته هو دائم التحكّم بالأطر القانونية الناظمة لحياة اللبنانيين الاجتماعية والشخصية؟
هل بالإمكان جعل القوانين الوضعية ملزمة لجميع المواطنين وجعل القوانين الدينية اختيارية؟
إلى متى هذا المزج بين الديني والسياسي؟ هل انفكاك المجال عن الآخر أمر مستحيل؟ كم هو حجم القوى المدنية التي فكّت ارتباطها بمراكز السلطة الطائفية؟ وكم هو مدى حضورها وتأثيرها في الحياة السياسية؟
الواقع يشي بأنّ الفكر الوطني يسجّل تراجعاً متزايداً في المجالين الثقافي والسياسي والإجتماعي لصالح الفكر الطائفي.. فكيف يمكن تحقيق إختراقات إصلاحية جذرية في النظام السياسي اللبناني؟! كيف يمكن تغيير الصيغة الميثاقية الطوائفية؟!
الى أين يذهب لبنان/ الدولة الميثاقية؟ أبات اللبنانيون في ضوء تجربتهم التعاقدية التاريخية قادرين على تبديل الصيغة لإدارة هذه الدولة إدارة عصرية كما تدار سائر الدول الحديثة أم باتوا مقتنعين بأنّ دولتهم هي من الدول الفاشلة أو من الدول الفائضة في المنطقة وباتت كلّ طائفة تبحث عن خلاصها الذاتي فارتدّت إلى مشاريعها الخاصة إمّا في الانفصال وإمّا في الهيمنة وإمّا في تعميق التبعية للدول ذات الوزن الاقليمي؟!
لماذا لم يتمكّن اللبنانيون من إعلاء شرعيّة الدولة على خصوصيات الطوائف؟ ألانّ الدولة هي حاصل إرادات هذه الطوائف؟ هل لأنّها مجرّد عقد قابل للمراجعة وفق إرادة المتعاقدين؟ لماذا لم يتمكّن هذا العقد من خلق دينامية ذاتية داخلية قادرة على اختراق مصالح المتعاقدين الفئوية وتجاوزها إلى مجموع الشعب اللبناني؟
ثمّة مسؤولية تتحمّلها القوى السياسية التي تناوبت على الحكم منذ إعلان ميثاق 1943 تاريخ الإنحراف عن تطوير دستور 1926 المدني، وبخاصة تجاوز المادة 95 منه، فبديل الإسراع في تنفيذ موقوتيتها وإلغائها من الدستور، بعد زوال الإنتداب، عمدت تلك القوى إلى الإنقلاب عليه وكرّست الميثاقية الطائفية الثنائية نظام حكم، فتراجعت أحكام الدستور المكتوب أمام أعراف الميثاق غير المكتوب.. العطب، وفق هذا المنطق، هو في شبكة سياسية توسّعت في تطبيق الميثاق لتثبيت نظامها الطائفي لدولة إفتراضية، وتجاهلت ما في الدستور من أحكام تؤسّس لبناء دولة مدنية حقيقية. ومن أسباب إستمساك تلك الشبكة بنظامها الطائفي ذاك الحلف الجهنّمي المبرم بين طائفية النظام وفساد الحاكمين.. الطائفية والفساد كيان عضوي واحد.. بين النظام الطائفي والحاكم الفاسد تغذية راجعة.
من هنا، أليس من الأمور المستعصية في هذه المرحلة تغيير النظام السياسي اللبناني بوجود هذا الإرتباط العضوي بينه وطاقم الشبكة الفاسدة؟
ليس من المعقول السياسي قطعاً الفصل بين طائفية النظام وفساد الحاكمين باسمه فالعقد الحقيقي القائم بين الطوائف هو بين الطائفية والفساد. هذا العقد هو الذي يمنح النظام قوّته ليستعصي على الإسقاط فكلّ المحاولات، لا أقول محاولات إسقاطه، بل محاولات إصلاحه بإلغاء وجه واحد من وجوهه الطائفية، لم تفلح حتّى اليوم، فكيف بإسقاطه؟
هذا الإستعصاء يدفع بنا إلى حدّ التساؤل هل النظام السياسي اللبناني هو على هذه الدرجة من القوّة أو القوى اللّاطائفية هي على هذه الدرجة من الضعف؟
تلك واحدة من الإشكاليات التي تضع هذه القوى على مشرحة الذات لتعيين نقاط القوّة فيها فتعزّزها ونقاط الضعف فتعمل على إزالتها.
طائفية النظام السياسي اللبناني، وفساد الشبكة الحاكمة الموزّعة خيوطها على المؤسسات والإدارات العامة، والمتّصلة جينياً ووظيفياً ومصلحياً "بأركان الدولة العميقة"، سمتان تؤشّران معاً، عند استفحال ظاهرة الإستبداد والإستئثار بالسلطة، إلى أوان التغيير المؤاتي بشرط تزامنه مع بلوغ الضغط الشعبي أعلى درجات التراكم إيذاناً بانفجار الثورة المنتظرة..