د.محمد علي السقاف يكتب:
الوحدة اليمنية نقيض الوحدة الألمانية
تناولنا في الحلقة الماضية مقاربة سريعة بين تجربتي الوحدة الألمانية التي أعلنت في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 1990، والوحدة اليمنية التي سبق إعلانها بعدة أشهر في 22 مايو (أيار) 1990، ولاحظنا في التجربة الألمانية بسبب تسارع الأحداث لم يكن أمامها الوقت الكافي للعمل بموجب دستور ألمانيا الاتحادية بإعداد دستور جديد للمرحلة الجديدة، وتم اختيار نص المادة 23 القاضية بضم الولايات الخمس التي أعيد إنشاؤها في ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية، واعتبر ما حدث توحداً بين الألمانيتين وليس إعادة توحيد.
وهنا يكمن أحد عناصر الاختلاف بين التجربتين؛ فألمانيا وكوريا وفيتنام من الدول المجزأة التي تم تقسيمها إلى دولتين بعد الحرب العالمية الثانية؛ شمالاً وجنوباً.
في الحالة اليمنية لم تكن هناك دولة واحدة حتى يتم تجزئتها وتقسيمها إلى دولتين منفصلتين بعضهما عن بعض، فإعادة الوحدة اليمنية كما ادعى البعض ليست إلا شعاراً سياسياً لا يوجد له أساس تاريخي أو قانوني، وبالتالي ما حدث في 22 مايو 1990 هو قيام وحدة للمرة الأولى بتوحد دولتي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
وتميزت الوحدة اليمنية عن التجربة الألمانية بصياغة دستور جديد لدولة الوحدة، وفق ما نصت عليه اتفاقية الوحدة الأولى الموقعة بالقاهرة في أكتوبر 1972، وتم إعداده من قبل لجنة دستورية من خبراء البلدين والذي فرغت اللجنة منه في نهاية عام 1981.
وكان من المفروض أن يسبق إعلان الوحدة اتباع خطوات أهمها تنظيم استفتاء على دستور الوحدة وإقراره، وانتخاب أعضاء البرلمان الجديد الموحد في إطار من التعددية الحزبية، على أن يتم أيضاً انتخاب أعضاء مجلس الرئاسة وتشكيل الحكومة الموحدة.
ولكن ما حدث عكس ذلك في اتفاقية صنعاء في أبريل (نيسان) 1990، وبدأت عملية التسريع بالإعلان عن قيام الوحدة وما صاحب ذلك من خطوات ارتجالية أحد أسبابها سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، ومخاوف من تداعيات هذ الحدث المزلزل على إمكان تأجيل قيام دولة الوحدة، ولذلك سارع الطرفان إلى إعلان قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990، وتشكيل مجلس النواب الموحد بدلاً من انتخاب أعضائه بدمج أعضاء مجلس الشورى للشمال وعددهم 159 عضواً مع أعضاء مجلس الشعب الأعلى للجنوب وعددهم 111 عضواً، يضاف إليهم 31 عضواً يختارون بقرار من مجلس الرئاسة الذي اختير بدوره بتخصيص 3 أعضاء من الشمال وعضوين للجنوب بإجمالي خمسة أعضاء.
واللافت أن قانون الانتخابات العامة الذي صدر عام 1992 اعتمد تقسيم الدوائر الانتخابية وفق المعيار السكاني فقط من دون احتساب المساحة، مما نتج عن ذلك تخصيص 56 مقعداً بدلاً من الرقم السابق 126 مقعداً، وبذلك أصبح الجنوب الذي تبلغ مساحته 336 ألف كلم مربع (يعادل ثلثي مساحة اليمن الموحد الإجمالية البالغة 555 ألف كلم مربع)، وينتج ما يقارب 70 في المائة من نفط دولة الوحدة ممثلاً في مجلس النواب بـ56 مقعداً نيابياً فقط، أي بفارق مقعدين عن المقاعد المخصصة لمحافظة صنعاء وأمانة العاصمة البالغة 54 مقعداً، وبذلك تمت مساواة دولة كاملة كطرف ثانٍ للدولة الموحدة بعاصمة وأمانة عاصمة الطرف الثاني الموقع معه الوحدة، وهذا يحدث في اليمن أن قانون الانتخابات، وهو قانون وطني، يعلو على الاتفاقية الدولية للوحدة التي تحكمها قواعد القانون الدولي! وبرغم هذه المفارقة نظمت الانتخابات النيابية لعام 1993 وما بعدها وفق عدد المقاعد التي خصصها قانون الانتخابات للجنوب.
وقد تمت معالجة جزئية لهذا العجز المعيب في تمثيل الجنوب في مسوّدة الدستور الاتحادي بإقراره «بعد الدورة التشريعية الأولى يمثل الجنوب (إقليما عدن وحضرموت) في مجلس النواب الاتحادي، وفقاً لمعادلة المساحة والسكان بنسبة 40 في المائة وتجوز مراجعة النسبة المذكورة»، وفقاً لمعادلة المساحة والسكان بعد دورتين انتخابيتين تليان الدورة الأولى.
وأحد أوجه ارتجالية ترتيبات إعلان الوحدة حين ابتكرت اتفاقية صنعاء منصب نائب رئيس مجلس الرئاسة الذي شغله ممثلاً للجنوب علي سالم البيض، وهو منصب لم ينص عليه دستور الوحدة، وتسبب ذلك في غياب اختصاصات نائب الرئيس الدستورية، ما شكل أزمة في العلاقات بين قيادة البلدين.
كما أن الدستور نفسه الذي كان من المفترض الاستفتاء عليه قبل 30 نوفمبر 1990 لم يستفتَ عليه إلا في مايو 1990، أي بعد عام من قيام دولة الوحدة، بل ذهبت السلطة أبعد من ذلك، واعتبرت الاستفتاء على الدستور كأنه استفتاء على الوحدة، وأنه لا حاجة لاستفتاء الشعب على الوحدة ذاتها، ولا على اتفاقية الوحدة نفسها.
وعلى مستوى العضوية في الأمم المتحدة، تم إشعار الأمين العام للأمم المتحدة بقيام دولة الوحدة تحت اسم الجمهورية اليمنية في 22 مايو، وعليه ألغي أحد مقعدي اليمن واختير الاحتفاظ بمقعد جمهورية اليمن الديمقراطية لسبب بسيط، هو أن اليمن الديمقراطي كان قد انتخب في 18 أكتوبر 1989 ضمن الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن لمدة عامين، ليستغل ذلك في أزمة الخليج الثانية.
واتبعت دولتا ألمانيا الإجراء ذاته بإبلاغ الأمين العام للأمم المتحدة بإعلان الوحدة الألمانية في 3 أكتوبر 1990، وعلى أثر ذلك ألغي مقعد ألمانيا الشرقية واحتفظ بمقعد ألمانيا الاتحادية تحت اسم ألمانيا.
وهنا يكمن الفارق الشاسع بين الوحدة اليمنية والوحدة الألمانية؛ فالأولى بدأ التخطيط لها والاتفاق على أسسها منذ اتفاق القاهرة في عام 1972 حتى 1990، والثانية بدأت سلطات ألمانيا الغربية الإعداد لها مباشرة بعد سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989، وعند المقارنة بين اتفاقيتي الوحدة اليمنية والألمانية، لم تتضمن الأولى غير عشر مواد فقط، في حين شملت اتفاقية الوحدة الألمانية 9 فصول و45 مادة، وبروتوكولاً واحداً (مذكرة تفسيرية) و3 ملفات أعدتها ألمانيا الغربية في سبل تحقيق تدريجي لاندماج مواطني واقتصاد ألمانيا الشرقية ليرتقي إلى مستوى ألمانيا الغربية.
وفي مناسبة ذكرى سقوط جدار برلين وتحقيق الوحدة الألمانية، لا يزال النقاش الساخن يدور بين من رأى أنه بعد ثلاثين عاماً من الوحدة، لا يزال فارق مستوى المعيشة بين الألمان الشرقيين والغربيين كبيراً، وأن الفارق بينهما تقلص تدريجياً، ويذكر البعض الآخر حجم ما تعرضت له أكثر من 3700 شركة ألمانية شرقية من تصفية وخصخصة مصانعها وبعض الشركات لمصلحة الألمان الغربيين.
مع خضم جدل كهذا، يشير آخرون إلى أن التضحية كانت من قبل الطرفين الغربي والشرقي، مذكرين في هذا الصدد بأن ألمانيا ضخت لتكلفة التوحيد نحو 1.6 تريليون يورو.
في التجربة اليمنية أجريت خصخصة واسعة النطاق في الجنوب بعد حرب 1994، شملت أكثر من 80 في المائة من مرافقه الإنتاجية وأدت إلى تسريح آلاف العمال، وبعكس التجربة الألمانية، فإن ضخ الأموال من عائدات النفط في الجنوب حولت إلى تنمية الشمال، خصوصاً على مستوى البنية التحتية.
وفي الخلاصة للاستدلال على الفارق بين تجربتي الوحدة اليمنية والألمانية، نشير إلى مشهدين مختلفين تماماً؛ التشييع غير المسبوق لجنازة مهندس الوحدة الألمانية، وأحد صناع الاتحاد الأوروبي المستشار الألماني هيلموت كول، الذي جرت مراسمه في البرلمان الأوروبي بحضور القادة الأوروبيين، وكيف انتهى مصير علي عبد الله صالح مقتولاً في صنعاء من قبل من تحالف معهم من الحوثيين الذين انقلبوا عليه كما انقلب هو على الوحدة!