ماجد السامرائي يكتب:
لماذا الغضب من التقارب السعودي العراقي؟
الحملة الإعلامية الشرسة ضد خطوات التقارب السعودي العراقي، التي قادها نوري المالكي رئيس حزب الدعوة إلى جانب مسؤولين آخرين، على خلفية اجتماعات مجلس التنسيق السعودي العراقي ببغداد أخيرا لا تثير الغرابة، بل عدم إثارتها سيبدو أكثر ريبة، فتلك الخطوات إذا ما نفذت بحرص وإخلاص من قبل المسؤولين التنفيذيين في العراق وهذا أمر سيكون صعبا، فإنها ستساهم في جانبها الاقتصادي ببناء قواعد مهمة للتنمية توظف لإرساء مصالح العراق العليا.
فهل يمكن بعد هذا توقّع ترحيب الأحزاب الشيعية وميليشياتها بأي خطوة حكومية مع الأشقاء العرب، وفي مقدمتهم السعودية ذات الثقل الاقتصادي المعروف؟ الترحيب يعني تخليا وانقلابا على وظيفة تلك الأحزاب المزدوجة في نهب ثروات شعب العراق وقمعه بالسلاح، وتقديم خدمات الوكالة والعمالة لنظام ولي الفقيه في طهران، المانع لأي خطوة في صالح العراق. وهذا أمر مرفوض.
يحاول مصطفى الكاظمي، في الميدان الاقتصادي، ضبط الوتيرة المتصاعدة لهيمنة الحرس الثوري “العراقي” وتغلغله في مفاصل النظام الاقتصادي وتفكيكه لصالح مافيات السرقة، في وقت وصل فيه العجز المالي إلى درجة أقرت معها قوانين القروض لسد نفقات رواتب موظفي الحكومة. بينما يواجه الكاظمي حملة إعلامية منظمة من قادة الأحزاب الشيعية وميليشياتها، لمنعه من أي محاولة انفتاح على المحيط العربي، خصوصا مع السعودية.
السعودية هي الأكثر قدرة من بين العرب على معاونة العراقيين اقتصاديا في هذا الظرف العصيب الذي يمرّون به. ولا ضير في إن كان ذلك سيكون فاضحا للنظام الإيراني
من الغرابة أن يشتكي رئيس الحكومة، إعلاميا، من حملات التشكيك الهادفة لتعطيل خطوات التقارب مع السعودية، وهو الممتلك لكافة الصلاحيات الدستورية، ويتذرع بتردد وخوف بأن انفتاحه هو ضمن إطار جلب الاستثمارات الخارجية، دون اهتمام أو قدرة من صاغ بيانه الإعلامي من الحديث عن أواصر الأخوة العربية بين بلدين شقيقين، لكنه بصورة غير مباشرة أقرّ وفضح تلك الحملات المسعورة التي تشن ضد مصالح العراق العليا.
قبل الكاظمي، أثيرت حول رئيس وزراء العراق الأسبق حيدر العبادي، وهو شيعي كان نائبا لرئيس حزب الدعوة ومحبا لإيران، ضجة بسبب زيارة إلى الرياض قام بها عام 2017، من نفس المجموعات الشيعية، فقط لأنه، وفي الحدود الدنيا لمسؤولياته كرئيس وزراء، توصل إلى قناعة مفادها ضرورة انفتاح العراق على محيطه العربي، أولا لمكانته التاريخية التي يحاولون قطع أواصرها، وثانيا للحاجة الماسة لدعم السعودية الغنيّة والمحبة لشعب العراق.
في حينه تم تأسيس مجلس التنسيق السعودي العراقي، الذي لم تُفَعّل نشاطاته حتى عام 2020، وعاقبت طهران العبادي على خطوته تلك بعدم التجديد له لولاية ثانية عام 2018. كما أثيرت ذات الضجة على زيارة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر للرياض ولقائه بولي العهد السعودي.
يعتقد قادة الأحزاب في بغداد أنهم سيقنعون أنصارهم الموالين لهم، من المرتزقة والمنتفعين، بفكرة المؤامرة القائلة إن للسعودية أهدافا إستراتيجية لتطويق النفوذ الإيراني في العراق، والاستحواذ على صحرائه الممتدة إلى حدود العراق مع الأردن والسعودية والكويت، وكأن السعودية خالية من الصحراء.
ووصل التخلف السياسي ذروته في محاولة إقناع السُذّج من البسطاء من قبل قادة شيعة إيران في العراق بأن هدف السعودية نهب وتخريب المياه الجوفية في تلك الصحراء، عبر مشاريع استثمارية زراعية. فيصف قيس الخزعلي، مسؤول ميليشيا العصائب، الاتفاق العراقي السعودي بأنه “استعمار وليس استثمارا ويتزامن مع التطبيع مع إسرائيل”.
لو افترضنا جدلا أن الهدف السعودي من وراء الاستثمار في العراق هو تطويق النفوذ الإيراني، فلماذا لا يدعو هؤلاء التلاميذ البررة وليّهم المرشد الأعلى لإعطاء توجيهاته للاستثمار الإيراني في الصحراء العراقية، بدل النهب السريع للأموال العراقية “الكاش” عبر بيع العملة بالمزاد اليومي ببغداد وتحويلها إلى طهران، وتصدير البضائع الرديئة، وإجبار الفلاحين العراقيين على التخلي عن إنتاجهم الزراعي، بسبب الهيمنة الإيرانية على سوق الغذاء في العراق.
ما كان لاستفزاز السعودية بهجوم إعلامي منُظّم من قبل الأحزاب الموالية لطهران التي لا تترك مناسبة إلا وأثارت زوبعة من الأحقاد والكراهية لكي تبقي شعب العراق بكل طوائفه وقومياته أسير الهيمنة الإيرانية، أن تثار حوله مثل تلك الضجة لو كانت لمافيات الفساد المرتبطة بهذه الأحزاب حصص في الاستثمارات السعودية المقترحة، إضافة إلى البعد السياسي والأيديولوجي لنظام طهران.
ملف الاستفزازات ضد السعودية متواصل، قبل وبعد افتتاح السفارة السعودية ببغداد في ديسمبر عام 2015، وتعيين ثامر السبهان سفيرا للسعودية في العراق. فقد شنّ قادة الأحزاب الشيعية والميليشيات الموالية لطهران حملة تحريض شخصي ضده قبل وصوله لبغداد تحت ذرائع خلفيته المهنية العسكرية.
شعور السبهان أنه في بلد عربي شقيق دفعه للتعاطي بانفتاح أكثر في الشأن العراقي، فدعا إلى ضرورة تقييد نشاطات الميليشيات المسلحة المُضرة. لتفسر تصريحاته من قبل ذات الفئات المُغرضة بأنها تدخل غير مسموح بالشأن العراقي.
قاد إبراهيم الجعفري، وزير الخارجية في حينه، حملة قوية ضده دفعت حكومة السعودية إلى سحبه بعد ثمانية أشهر من عمله ببغداد، وأصبح وزيرا للدولة مسؤولا عن شؤون المنطقة.
لكن مقاييس المهنية عند قادة هذه الأحزاب لا تنطبق على المندوب السامي الإيراني في العراق، إيرج مسجدي، الذي كان جنرالا في الحرس الثوري الإيراني. ولا أحد منهم قادر على النطق بكلمة نقد على نشاطاته غير الدبلوماسية وجولاته في مدن العراق ولقائه بمجاميع موالية لطهران.
يحاول مصطفى الكاظمي، في الميدان الاقتصادي، ضبط الوتيرة المتصاعدة لهيمنة الحرس الثوري “العراقي” وتغلغله في مفاصل النظام الاقتصادي وتفكيكه لصالح مافيات السرقة
ما يقال عن صراع أيديولوجي سعودي إيراني، يرجع إلى أن نظام خميني يعتقد، استنادا إلى نظريته في ولاية الفقيه، أن الحكم في طهران هو مركز الولاية الإسلامية، وأن على جميع المسلمين الإذعان لإمبراطورية فارس الجديدة، في تنفيذ مشروع تصدير الثورة القومية و”تفريس” المنطقة العربية ابتداء من العراق. وخير من كشف أهداف هذا النظام ليست السعودية أو دول الخليج أو المغرب العربي، فقط، وإنما شعب العراق وشبابه المنتفضون والشعوب الإيرانية المُبتلاة بسلطة الملالي منذ أربعين عاما.
السعودية هي الأكثر قدرة من بين العرب على معاونة العراقيين اقتصاديا في هذا الظرف العصيب الذي يمرّون به. ولا ضير في إن كان ذلك سيكون فاضحا للنظام الإيراني، ومساعدا على تقليص نفوذه في بلاد الرافدين.
لا يُستغرب وصول قادة الأحزاب الشيعية الموالية لطهران إلى هذه الدرجة في فضائح التخلي النهائي عن هموم العراقيين، ومنع أي محاولة عربية لمعاونتهم، والاهتمام بالتسابق على رضا حكام طهران، الذين لا يسمحون لأي رئيس حكومة عراقية بفتح نافذة على المحيط العربي قد تعينه على مداواة جروح العراقيين والتخفيف من الظلم والجور الواقع عليهم، عملا بقرار الأوصياء في طهران تنفيذ عقوبة طويلة المدى بالعراق وعزل أهله وإذلالهم.