الحبيب الأسود يكتب:
عبير موسي والفهم الإخواني القاصر للوطنية
كل من يتابع المشهد السياسي التونسي، لا بد وأن يتوقف عند شخصية عبير موسي المحامية التي تتزعم الحزب الدستوري الحر منذ صيف 2016، ورئيسة كتلته البرلمانية المكونة من 16 نائبا، فهذه المرأة تحولت إلى ظاهرة سياسية غير مسبوقة بالنسبة للنساء في بلادها، من حيث القدرة على الاستحواذ على الاهتمام وإثارة الجدل ورمي الحصى في المياه الراكدة، وكذلك من حيث ملكة الخطابة والإمساك بناصية اللغة والمفردات وترتيب الأفكار واستحضار المعلومات المهمة بما فيها الأرقام عن ظهر قلب، والتعامل بدقة مع عنصر الوقت وخاصة خلال مداخلاتها تحت قبة البرلمان، حيث لا تنتهي المدة المخصصة لها إلا وقد أتمت تبليغ رسالتها.
تعتبر موسي نفسها ليس فقط سليلة الدولة الوطنية البورقيبية (نسبة إلى الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة)، وإنما المؤتمنة على حماية إرثها الذي يواجه محاولات لنسفه والقضاء عليه من قبل قوى الإسلام السياسي، وهو ما جعلها تحظى بمساندة الكثيرين من المدافعين عن النموذج المجتمعي الذي أرسته دولة الاستقلال، وعن خصوصية الحالة التونسية كما شكّلها بورقيبة عبر الأدوات المتاحة في عصره، أي التعليم والإعلام والثقافة، قبل أن تصبح مهددة في ثوابتها وخاصة عبر الوسائط الاتصالية الجديدة المجندة بشكل كبير للتشكيك في تاريخ البلاد وفي مكتسباتها ومؤسساتها وحتى في وحدتها الوطنية، وصولا إلى الحديث عن مشاريع لتفكيك الدولة بهدف إعادة تشكيلها بالأسلوب الذي يتلاءم مع مصالح الراغبين في السيطرة عليها كليّا.
تقود موسي حزبا استطاع أن يتحول إلى قوة عقائدية في مواجهة عقائدية الإسلام السياسي، ولديه مؤسسات نشطة وخبراء واستشاريون ومتطوعون وداعمون أساسيون
وعندما تتحدث موسي أو أي تونسي آخر عن المخاطر التي تتعرض لها البلاد، سترتفع أصوات الإخوان في البرلمان وعبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بتلك الاتهامات الجاهزة، وخاصة التبعية المزعومة لدولة الإمارات، قبل أن تضاف إليها السعودية، وهي اتهامات اختص بها مؤخرا النائب عن حركة النهضة نورالدين البحيري، الذي يرى أن رفض التونسيين لوجود فرع لاتحاد يوسف القرضاوي ببلادهم من خلال الاعتصام الذي ينظمه الحزب الدستوري الحر، إنما هو مشروع إماراتي، وأن على موسي أن تتخلى عن صورة بورقيبة التي ترفعها من موقعها تحت قبة البرلمان وتعوضها بصورة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وهو ما يعني أن إخوان تونس كغيرهم من إخوان المنطقة يربطون فكرة الدفاع عن الدولة الوطنية والحداثة والمدنية ورفض مشروع الدولة الدينية والنزعات الإرهابية ومزادات المتاجرة بالدين، بمحور الاعتدال العربي الذي يعادونه، ويعتبرون كل من يخالفهم الرأي أو يتصدى لمخططاتهم وممارساتهم، امتدادا للإمارات والسعودية ومصر. وكأن على التونسيين أن يتخلوا عن هويتهم الوطنية الضاربة في العراقة، وعن تجاربهم الإصلاحية التي بلورها بورقيبة في دولة الاستقلال، ليكونوا تابعين للمحور التركي القطري مباشرة، حيث لا ينظر الإخوان وحلفاؤهم للمسألة إلا وفق معادلة واحدة: إما مع الإسلام السياسي والإرهاب والميليشيات والفوضى في المنطقة ومع ما يخطط له أردوغان وتميم وتابعوهما، أو مع الإمارات والسعودية ومصر والجيش الليبي، ولا شيء في المقابل اسمه دولة وتاريخ وانتماء ورؤية وطنية وحداثة ومدنية وخصوصيات محلية، كانت تونس سبّاقة لها دائما.
اليوم، تشير مختلف عمليات سبر الآراء المعلنة والسرية عن تقدم الحزب الدستوري الحر في نوايا التصويت بنسبة 38 في المئة، مقابل 19 في المئة لحركة النهضة الإخوانية، وهناك من يرجح أن ترتفع نسبة داعمي حزب موسي، وهو ما يمثل زلزالا سياسيا وفق المراقبين، فالحزب الذي جاء من رحم النظام السابق، يتحول اليوم إلى ملاذ وملجأ لجانب كبير من التونسيين عشية الذكرى العاشرة لما سمي بثورة الياسمين واندلاع عاصفة الربيع العربي، فيما تتراجع أسهم الأحزاب “الثورية” ويصل اليسار إلى مرحلة أقرب إلى الاندثار، ويبدأ الإسلاميون في إدراك طبيعة حجمهم الحقيقي الذي لا يتجاوز 5 في المئة من عموم المجتمع و8 في المئة من الخزان الانتخابي العام، علما وأن حركة النهضة تتصدر اليوم البرلمان بـ560 ألف صوت حصلت عليها في انتخابات 2019 من جملة أكثر من سبعة ملايين مسجل في اللوائح الانتخابية لم يذهب منهم إلى صناديق الاقتراع إلا 3 ملايين ناخب تقريبا.
تربت موسي في منظومة النشاط الجمعياتي منذ طفولتها، ووسط أسرة جالت أغلب مناطق البلاد نظرا لعمل والدها في مجال الأمن، حيث ولدت في الساحل وهي أصيلة الشمال، وقضت سنوات من حياتها في الجنوب والوسط، ثم بالعاصمة، استفادت من ذلك في تحصيل طلاقة التفكير واللسان التي تدعمت بدراستها للحقوق وتخرجها كمحامية، كانت الأولى على دفعتها، كما كانت ناشطة في التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم قبل 2011 ووصلت إلى مرتبة أمينة عامة مساعدة مكلفة بالمرأة والأسرة في العام 2010، وعندما بدأ القضاء النظر في دعوى بحل الحزب رفعها ناشطون يساريون ودعّمها إسلاميون بعد الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، تقدمت للدفاع عنه بقوة، وواجهت الكثير من التحديات بمحاولات ملاحقتها قضائيا وإقصائها مهنيا ومحاصرتها اجتماعيا.
ولا تعترف موسي بالثورة ولا بمخرجاتها ولا بالإخوان وحركة النهضة، لكنها تحترم القانون وتعمل تحت سقف دستور 2014، وقد ساعدها ذلك على أن تتحرر من كل المعوقات التي قد تصيب خطابها بالارتباك، وهي اليوم تبني خطابها على جملة من المفاهيم المهمة كالسيادة الوطنية وهيبة الدولة ووحدتها وقيم الحداثة والمدنية ومكتسبات دولة الاستقلال وعدم التنكر لنظام ما قبل يناير 2011، مع قدرة فائقة على استغلال ثغرات الخطاب السياسي والممارسة العملية لدى الأطراف المقابلة ممثلة في قوى الإسلام السياسي.
يتميز خطاب موسي السياسي بعناصر مهمة في تشكيل الزعامة التي باتت تحظى بها على نطاق واسع، أبرزها الطاقة والعناد في تبليغ الفكرة والذكاء الاجتماعي وخاصة في مجال الاتصال وترتيب الأفكار بكثير من الانفتاح العقلي والمثابرة إلى جانب الكاريزما، أو ما يسميها ماكس فيبر بالسلطة الكاريزمية التي تستمد شرعيتها من إيمان الآخرين بقدراتها.
عندما تتحدث موسي أو أي تونسي آخر عن المخاطر التي تتعرض لها البلاد، سترتفع أصوات الإخوان في البرلمان وعبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بتلك الاتهامات الجاهزة
وتقود موسي حزبا استطاع أن يتحول إلى قوة عقائدية في مواجهة عقائدية الإسلام السياسي، ولديه مؤسسات نشطة وخبراء واستشاريون ومتطوعون وداعمون أساسيون من داخل مؤسسات الدولة وأنصار من بينهم من ينتمون إلى الطيف اليساري أو القومي أو حتى الإسلامي المعتدل، حيث أن ما يجمعهم ليس الحنين إلى ما مضى، وإنما هو الأمل في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حاضر البلاد ومستقبلها، خصوصا في ظل تنامي أطماع القائمين على مشروع الإسلام السياسي في المنطقة وخاصة النظام التركي، وارتباط التنظيمات المحلية بتلك الأطماع بما يهدد سيادة الدولة.
منذ استقلالها، لم تعرف تونس صعوبات اقتصادية أو نذر تفكيك الدولة كما تعرفها الآن، ولا يخفي السياسيون والمحللون والراصدون للأحداث مخاوفهم من انهيار شامل لمكاسب دولة الاستقلال بسبب حالة الاحتقان الاجتماعي الناتجة عن عجز الطبقة السياسية الحالية، وهذا ما يحذر منه الجميع دون استثناء بما في ذلك الرئيس قيس سعيد، ولكن عندما تشير إليه عبير موسي، ستجد من يقول لها أنت تابعة لهذا البلد أو ذاك، ببساطة لأن من يتهمون بالتبعية لمحور بعينه، لا يستطيعون التملص من تبعيتهم المعلنة والواضحة لمحور الخراب والإرهاب في المنطقة.