د. ساسين عساف يكتب:
العروبة في آفاقها وانفتاحاتها المستقبلية
عروبة الآفاق، مشروع نهضوي قومي عربي قوامه بنية نظرية متماسكة ومرنة وقابلة للتطوير المستمرّ، تواكبه حركة انتفاضات ومسيرات واعتصامات وثورات شعبية تستقرّ شعاراتها على شعار واحد: "الوحدة..ثمّ الوحدة.. ثمّ الوحدة" يقودها فكر قومي متنوّر وقادر على التواصل مع سائر قوى الأمّة ورافض للإستبداد والفساد والتبعية والرضوخ "للسلم الإسرائيلي" ومتمسّك بثوابت الأمّة في التحرير والسيادة والكرامة القومية ومتطلّع إلى بناء أنظمة ديموقراطية تنموية قادرة على تحصين الجبهات الداخلية وتمتين أواصر الوحدات الوطنية بهدف تعزيز المواجهة الدائمة لأعداء العروبة.
- العروبة الحضارية، عروبة الآفاق، رابط مكوّنات الأمّة ومعبرها إلى العالمية. هي العروبة الإيمانية العقلانية والعلمية في آن، عروبة الروح الإنسانية والرسالات المنفتحة وفق مسارات العقل والعلم والقيم الأخلاقية على الشعوب والأمم كافة قوامها حضارة المحبة والأخوّة وكرامة الإنسان وحقوقه الطبيعية ما ينزع عنها الطوابع العنصرية ويقدّمها تراثاً حضارياً وثقافياً إغتنى من حضارات الشعوب وأغناها، غرف من كنوزها وشرّع لها ما فيه من منظومات معرفية وفكرية وقيمية.
- عروبة الآفاق، منقذ الأديان من مذاهبها، هنا العروبة تنتفي أن تكون دعوة لوحدة سياسية تبنى على أساس ديني/مذهبي من دون أن تعادي أو تناهض الدين بل هي تستلّ روحه وتستقي قيمه وأخلاقه. بهذا المعنى لا خشية من الإسلام على العروبة، وبهذا المعنى ينتفي أيّ إشكال بين المسيحيين العرب والعروبة التي تتّخذ الإسلام لها مرجعاً قيمياً وأخلاقياً وإرثاً حضارياً وثقافياً مشتركاً يسترشد بهما في وضع الدساتير والقوانين والأحكام لدولة الوحدة قومية كانت أم وطنية. العروبة ليست الإسلام على خصوصية العلاقة التكوينية القائمة بينهما (الراهن العربي تتعرّض عروبته للتخريب الكامل، أدواته أهل العصبيات والفتنويات الطائفية والمذهبية والإنسدادات القطرية. هؤلاء لا يجدون حرجاً في تنفيذ مخططات التفكيك والتجزئة التي وضعها لاعبون دوليون وإقليميون تؤذي مصالحهم العروبة الوحدوية خصوصاً في سعيهم إلى إقامة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير على أنقاض مجتمعات عربية تدمّرها حروب مذهبية وعروبية/ إسلامية وقطرية/قطرية.. هنا تتزاحم مشاريع القضاء على العروبة والإسلام معاً فلا يبقى من هوية الأمّة سوى هويات فرعية متصادمة..)
- عروبة الآفاق، عروبة الهوية الجامعة والمعبّرة عن نفسها بصيغة الولايات المتّحدة العربية التي تنقذ العرب من تصادم القومي بالوطني أو الوطني بالقومي والتي لا تلغي الكيانات القائمة بل تعمل على تمتين علاقاتها في وحدة مصير قومي فالأمّة في رأيها موحّدة في معنوياتها ويجب أن تكون موحّدة في مادياتها وحدة قومية حتمية شاملة. ليست الوحدة العربية تجميعاً كمّياً للكيانات القائمة بل نتاج تفاعل بين مكوّنات الأمّة داخل هذه الكيانات وفيما بينها. (الراهن العربي يشهد أنّ كلّ ما هو فئوي يتقدّم على كلّ ما هو قطري وكلّ ما هو قطري يتقدّم على كلّ ما هو قومي ان لم يصادمه أو يعاديه. الكيانية الفئوية كما الكيانية القطرية لم تعد مسألة جغرافية أو سياسية بل أصبحت مسألة ثقافية تجزيئية وعنصرية تتحكّم بالخطاب الرّسمي وغير الرّسمي وتغّيب المشتركات وتعطّل مؤسسات العمل الوطني أو العربي الوحدوي وتنتهك كلّ المعاهدات والمواثيق الوطنية والقومية وتسقط أحلام الشعوب بالوحدة.. وحدة الأقطار باتت مهدّدة ما يجعل الكلام على وحدة عربية تجسّدها دولة قومية وحدوية أو اتّحادية مفتقراً لأيّ أساس واقعي..)
- عروبة الآفاق، هي العروبة المتمسّكة بالقضية الفلسطينية قضيّة العرب المركزية، والمؤمنة بالمواجهة القومية الشاملة في صراع حضاري وجودي وحقوقي تخوضه الأمّة مع عدوّها الأوحد وبالكفاح المسلّح طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين وإنقاذ القدس من التهويد. ومن وسائل المواجهة القضاء على أشكال تطبيع العلاقات بالعدو كافة ومقاطعة البضائع الصهيونية وبضائع الدول الداعمة لهذا العدو. هي عروبة قوميّتها إنسانية ثورية وتقدّمية تنتصب ندّاً للحركة الصهيونية.(الراهن العربي يحدو على طرح الأسئلة الآتية: هل ما زالت فلسطين قضية العرب المركزية؟! هل بقي من العرب من يعدّ لاستراتيجية مواجهة أو تحرير قومية شاملة؟! ألم يتحوّل الصراع من حضاري وجودي إلى نزاع جغرافي حدودي؟! ألم يتبدّد الإعتقاد بجدوى الكفاح المسلّح في صناعة التحرير؟! ألم يصبح التطبيع أمراً مباحاً وميسّراً في معظم العواصم العربية؟! كم عدد الحكومات والأنظمة والقوى السياسية التي تنتفض لتهويد القدس وازالة معالمها الدينية الإسلامية والمسيحية؟! ألا تزخر الأسواق العربية بالبضائع الصهيونية؟! انّ الأجوبة عن هذه الأسئلة تثبت أنّ الراهن العربي لا يحمل أيّ وجه من وجوه العروبة التي نريدها ندّاً للصهيونية..)
- عروبة الآفاق، هي العروبة المقاومة باستمرار للسيطرة الأجنبية والاستعمار الثقافي والحركات الشعوبية المعادية للعرب وللقومية العربية خصوصاً حركات شعوبيي هذا الزمان المرتبطين بدوائر الصهيونية العالمية والمتحاملين على العرب وهويّتهم الثقافية والساعين إلى تشويه الوجه الإيجابي للعلاقة بين العرب والغرب والعاملين على غزو العرب أمناً واقتصاداً وثقافة. (الراهن العربي يظهر أنّ الأمّة العربية مكشوفة أمام كلّ الإنتهاكات والاعتداءات والاحتلالات الأجنبية. وأخطر ما فيها احتلال هوية الأمّة الثقافية وإفراغها من منظومة قيمها وتزوير تاريخها ونكران ما لها من إسهامات في بناء الحضارات وتفاعلها وتصويرها أمّة إرهابية متخلّفة. هذا في الجانب الثقافي أمّا في جوانب الأمن والسياسة والإقتصاد فنسأل: ألم يستسغ البعض من "صنّاع الربيع العربي" السيطرة الأجنبية بديلاً من الأنظمة الإستبدادية واستجلاباً لديموقراطية مزعومة؟! من أباح للمستعمر سرقة الثروات العربية؟! ومن شرّع وجود قواعده العسكرية؟!)
- عروبة الآفاق، هي المعبّرة عن الشخصية الحضارية للأمّة العربية المتحرّكة في دوائر حضارة الإسلام فالتفاعل الحضاري قائم بين هذه الدوائر حتى بات التجدّد الحضاري العربي محكوماً بهذا التفاعل إلى حدود بعيدة. ما يحدّ من قوّة هذا التفاعل الخلافات السياسية والتنافس الإقليمي والتناقض المصلحي خصوصاً بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية ودول الخليج التي تعود جذورها إلى الخلاف على هوية الخليج وإلى الحرب العراقية الإيرانية وإلى الحرب على اليمن وفيه فضلاً عمّا تشهده المنطقة اليوم من ارتفاع درجات الصراع المذهبي. من تداعيات ذلك اصطفافات طائفية وحالات إرتداد عن العمل القومي في منطقة الخليج ومزيد من التوتّر بين القومي والديني ومزيد من الإندفاع لإجراء اتفاقيات سلام مع الدولة العبرية.
- عروبة الآفاق، عروبة التجدّد في الفكر الديني والفكر القومي شرطاً موضوعياً للتجدّد الحضاري. كيف لهذا التجدّد أن يحصل والفكر القومي العربي ضئيل الحضور في الثقافة السائدة في معظم المجتمعات العربية حيث الحضور الكثيف هو لثقافة الإسلام السياسي أوّلاً ولثقافة الإنعزال القطري ثانياً وهي ثقافة متخلّفة أسهمت في تعطيل الوعي القومي بالتنمية القومية الشاملة خصوصاً التنمية البشرية التي هي محور ومحرّك التجدّد الحضاري. التنمية من طريق العلوم والتكنولوجيات الحديثة هي الأساس للأبنية الإقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية أي لوحدة المجتمع العربي كلّه وهي أمر يتعذّر إجراؤه ما لم يتفاعل أبناء العروبة مع المتغيّرات الحاصلة في زوايا العالم الأربع على قاعدة التداخل بين القومي والعالمي في الحراك السياسي والفكري والثقافي.
عروبة الآفاق، مسألة لن تحصل إلاّ في ظلّ حرية الفكر والاعتقاد فحرية الإنسان العربي تظهر جوهره وتطلق إمكاناته وتجعله يتحسّس كرامته الفردية ويعي حقوقه وقيمته الوجودية، وشرطها تأصيل المصطلحات في الفقه السياسي والاجتماعي والتربوي والقانوني واللغوي لبناء منظومة معرفية عربية خاصة تشكّل قاعدة التجدّد الحضاري.
· كاتب لبناني وعميد سابق لكلية الآداب والعلوم الانسانية في الجامعة اللبنانية