حميد الكفائي يكتب:
انتخابات تسبقها تصفيات
كثيرون في العراق يعولون على الانتخابات المقبلة لتغيير النظام السياسي والإتيان بطبقة سياسية جديدة كبديل للطبقة الحالية المتهمة بتدمير العراق وسرقة أمواله، وربطه بالنظام الإيراني المحاصر دوليا وشعبيا والمرفوض عراقيا. لكن الانتخابات المقبلة لن تكون نزيهة أو شفافة بسبب غياب الأمن وتسيد المليشيات المسلحة التي بدأت ترهب المرشحين المحتملين حتى قبل أن يترشحوا.
مراقبون كثيرون، بينهم كاتب السطور، حذروا من أن الانتخابات المبكرة، إن أجريت في الموعد المقرر في حزيران المقبل، لن تغير الواقع السياسي المتردي، خصوصا في ظل نظام انتخابي يفضل القديم على الجديد. مقومات التغيير ليست مكتملة، فلا توجد أحزاب جديدة معروفة، عابرة للمناطق والطوائف، ولا توجد برامج سياسية واقتصادية مدروسة، تقدم للناخبين كي يصوتوا على أساسها.
ولا تمتلك الأحزاب التي تمثل التوجه الجديد، التنظيم ولا التمويل المطلوبين للفوز، في وقت تتميز الجماعات السياسية الممسكة بالسلطة، بالتنظيم وتمتلك أموالا طائلة، وأعضاؤها مسؤولون متنفذون في الدولة، يستخدمون إمكانيات الدولة لصالحهم، وسوف يتمكنون من البقاء، خصوصا عبر التزوير، الذي سيجتهدون لممارسته، كما فعلوا في الانتخابات الماضية.
التعويل على الإشراف الدولي، الذي يتوهم كثيرون بأنه سيضمن إجراء انتخابات نزيهة وشفافة، ليس في محله، فالأمم المتحدة لا تمتلك حلا سحريا لمعالجة الفساد في مؤسسات الدولة، ولا السيطرة على سلاح المليشيات المرتبطة بإيران، الذي يعزز الفساد ويستقوي به.
لقد كانت الأمم المتحدة موجودة و(مشرفة) على كل الانتخابات الماضية الخمسة، التي أجريت منذ عام 2005، بالإضافة إلى الاستفتاء على الدستور، لكننا نعلم أن تزويرا وفسادا قد شاب تلك الانتخابات، بل إن الانتخابات الأخيرة التي أجريت عام 2018 قد شابها تزويرٌ واسع، إذ استغلت الجماعات المسلحة غياب الناخبين، الذين أعرضوا عن التصويت لعدم جدواه في إجراء التغيير الذي ينشدونه، لتستخدم الاستمارات الانتخابية الفارغة لصالح مرشحيها، ولذلك (فازت) بالنسب نفسها التي حصلت عليها سابقا، على رغم السخط الجماهيري الواسع من أدائها.
ومن المعوقات التي يهمل ذكرها المسؤولون في الحكومة الحالية لأسباب غير معلنة، ولكن يمكن تقديرها، هي أن المحكمة الاتحادية ناقصة عضوين من أعضائها، وهي لا تستطيع أن تعقد أي جلسة إلا بكامل أعضائها التسعة، كما ينص على ذلك قانونها. ولا يمكن إجراء الانتخابات إن لم تكن هناك محكمة اتحادية مكتملة كي تصدِّق على النتائج، وتنظر في الطعون التي يتقدم بها المشاركون. وفي خلاف ذلك، لن تكون الانتخابات شرعية ولن تُقبَل نتائجها، فالدستور ينص على أن تصدِّق المحكمة الاتحادية على النتائج كي تصبح ملزمة للأطراف المشاركة. لا توجد جهة دستورية أخرى مخولة للنظر في الطعون غير المحكمة الاتحادية، ومازالت المحكمة ناقصة، فإن أي حديث عن الانتخابات يصبح نظريا بحتا.
الأمر الخطير، الذي لم تلجأ إليه الجماعات المسلحة سابقا، لأن المنافسات كانت محصورة بينها، هو تصفية المرشحين المنافسين جسديا، وقد قُتل العديد من الشخصيات التي لها مكانة اجتماعية وقدرة سياسية، لمجرد أنها أعلنت عن نيتها الترشح في الانتخابات. الحكومة الحالية لم تتخذ إجراءً معلوما حول الجرائم اليومية التي ترتكب بحق المرشحين، ولم تقدم أحدا للمحاكمة بخصوص الاغتيالات الاخيرة للمرشحين والناشطين، ولا بخصوص شهداء انتفاضة تشرين السبعمئة، أو عشرات المخطوفين، وبعضهم شخصيات ثقافية معروفة مثل توفيق التميمي ومازن لطيف، وكل الذي نسمعه من مسؤوليها هو الحديث عن الانتخابات المبكرة، وكأن هذا هو الإنجاز الأعظم، بينما تهمل أهم واجباتها وهو حماية حياة المواطنين وتوفير الأمن لهم، ناهيك عن إقامة العدل وتوفير الوظائف والإيفاء بالتزامات الدولة تجاه الفقراء.
قتل المرشحين من الأحزاب والتوجهات الجديدة عمل ممنهج ومنظم، والذين يقفون وراءه معروفون، وقد أعلنت الحكومة أنها تمكنت من القبض على قتلة أحد المرشحين في بغداد، المحامي عبد المنعم رشيد السلماني، الذي اغتيل في عملية غادرة أمام باب منزله، وقد وثقت كاميرا منزله العملية الإجرامية بتفاصيلها، لكننا لم نسمع عن نتائج التحقيق في مقتله، ومن هي الجهة التي أمرت بقتله، ومن هم الأشخاص الذين نفذوا هذه العملية الإجرامية، التي يجب أن تكشف تفاصيلها للرأي العام.
كما عُثِر على جثة الناشط المدني والمسعف الصحي في ساحة الحبوبي في الناصرية، حيدر ياسر، ملقاة على حافة النهر في قضاء سوق الشيوخ التابع لمحافظة ذي قار. الآثار على جثة المجني عليه تشهد على بشاعة الجريمة، والهدف من تعذيبه هو إثارة الرعب بين من يعتزم الترشح للانتخابات. من الواضح أن قتلته مرتبطون بالجماعات الإجرامية المسلحة التي تعتزم المشاركة في الانتخابات والحصول على (مباركة) الشعب. لماذا قتلوا الشاب حيدر ياسر علما أنه لم يعلن أنه يعتزم الترشح؟ هل لأنه شخصية متفانية في العمل الوطني؟ هل لأنه ساعد الجرحى والمرضى في ساحات التظاهر؟ أم لأن احتمالات فوزه، لو رشح، كبيرة، بسبب فشل أعضاء البرلمان الحاليين أن يقدّموا شيئا لأهالي الناصرية، سوى الانشغال في تقييم أحداث التأريخ السحيق وضرورة تغيير اسم (شارع الرشيد) في بغداد "لأن الخليفة العباسي لا يستحق التخليد"!.
مرشحون محتملون آخرون قُتلوا في محافظات أخرى، وهذا يعني أن أي حزب جديد لا يمتلك ميليشيا لحماية أعضائه ومرشحيه، لن يكون قادرا على التنافس، بل لن يجرؤ أحد على الترشح من خارج المنظومة الحالية التي تمتلك مليشيات مسلحة لحماية قادتها وأعضائها، علما أن العراقيين الغاضبين من الفساد والفشل والتبعية لإيران، لم يقتلوا أيا من المسؤولين الحاليين المتهمين بالسرقة والفساد والقتل وانتهاك القوانين.
لقد برهن المحتجون أنهم أرفع أخلاقيا وأرقى شعورا بالمسؤولية الوطنية وأكثر التزاما بالقانون من السياسيين الذين يشرعون القوانين ويخرقونها دون حرج. فالعراقيون يُقتَلون يوميا وتُسرَق أموالُهم، لكنهم لم يتمردوا على النظام ولم ينتهكوا القانون، علما أن من حقهم الدفاع عن أنفسهم ضد عمليات القتل الممنهجة التي ترتكبها المليشيات الإيرانية، لكنهم، لابد أن يفكروا جديا في حمل السلاح لأغراض الدفاع عن النفس. الحكومة تحمي أفرادها ومرشحي الحزب الذي يعكف مقربون من رئيس الحكومة على تشكيله، أما الأحزاب الجديدة فهي تخاطر بأعضائها وقادتها لذلك فإن نتائج الانتخابات المقبلة معروفة سلفا.
لقد تجاوز عدد التشكيلات السياسية الجديدة 400 تشكيل حتى الآن وقد يصل الرقم إلى 500، حسب النائب عبد الكريم عبطان، ومعظم هذه التشكيلات تابعة للجماعات السياسية الحالية، فهؤلاء يصرون على الترشح، رغم أن الشعب رفضهم بسبب استهانتهم بكل القوانين والقيم والأعراف، وتجاوزهم على المال العام خلال فترة حكمهم. الهدف الآخر من هذا الكم الهائل من الأحزاب المسجلة التي تتنافس في 83 دائرة انتخابية، هو إرباك الناخبين وتشتيت أصواتهم، فكثرة المرشحين ستمكِّن الأسماء المعروفة من الحصول على أصوات أكثر من الآخرين، لأن لديها أعضاء أحزابها وأتباعها وموظفيها وأفراد عائلاتهم، وكلهم سيصوتون لمرشح معين حسب التوجيهات، أما الشخصيات الجديدة فمعظها غير معروف وسيحصل على أصوات أقل.
النظام الانتخابي الجديد يفضل الأحزاب القائمة المتنفذة، وهذا ما قلناه مرارا وتكرارا، عن دراية وخبرة في الأنظمة الانتخابية، من أن أفضل وأعدل نظام انتخابي هو نظام التمثيل النسبي بدائرة انتخابية واحدة، لأنه يسمح للتوجهات السياسية في البلد بأن تضافر جهودها كي تتمثل في البرلمان، تمثيلا يتناسب مع عدد المقترعين لصالحها، بينما نظام الدوائر المتعددة يسمح بإهدار معظم الأصوات، ويأتي فقط بمن ينال أعلى الأصوات، بغض النظر عن نسبة المقترعين لصالحه. فإن ازداد عدد المرشحين فإن أحد المتنفذين سوف يفوز بفارق بسيط، بينما تُهدَر باقي الأصوات التي قد تتجاوز نصف الأصوات. المثير للاستغراب أن مفوضية الانتخابات (المستقلة) لم تعترض على أي من الأسماء التي شغلت مواقع حكومية سابقا، ومعظمها متهم بالفساد.
خطابات الجماعات السياسية الحالية تتغير حسب الموسم. بالأمس رأيت أحد المتشدقين بالدين، المعروفين بالفساد، والذي يحمل أكثر من رمز ديني، يقف خطيبا ويقول "إن إلقاء الفاسدين في السجن لا يكفي، بل يجب استرجاع الأموال المسروقة منهم"! وهذا الشخص يعلم بأنه وأفراد مجموعته من أكثر الناس فسادا وسرقة للمال العام واستهانة بحقوق الناس، وهو لا يمتلك أي مؤهل أكاديمي أو مهني سوى كونه من جماعة (كان جدي)! مرشح آخر كان فتح الأجواء العراقية لإيران دون سؤال أو جواب، ورد على طلب المسؤول الإيراني بالسماح للطائرات الإيرانية بالتحليق في الأجواء العراقية (من بطن عيني)! وكأن أجواء العراق ملك له كي يهبه لدولة أخرى! مرشح آخر معروف بالفساد، بل ضبط يمارس الغش في الامتحان! أحد الأحزاب الجديدة يقودها شخص كان إلى عهد قريب سكرتيرا لزعيم جماعة معروفة بالفساد والتبعية لإيران. مرشح آخر لم يعرف إلا بتهريب الأموال نيابة عن زعيم سياسي بارز، وهكذا دواليك! كيف يمكن هؤلاء أن يجددوا النظام السياسي وينصفوا الناس؟.
يبدو أن الجماعات السياسية الحالية مصممة على البقاء في السلطة، وربما تتمكن عبر إرباك الناخبين وقتل المنافسين، وتواطئ الحكومة، التي يريد أعضاؤها مكانا لهم بين الجماعات الحالية، وربما يفكرون بأنهم سيفوزون في الانتخابات المبكرة، لأن الأحزاب القديمة مرفوضة وأن الناخبين لن يجدوا بديلا غير حزب جديد يتزعمه رئيس الوزراء الذي يُفتَرَض بأنه جاء لإدارة المرحلة الانتقالية وليس للتنافس الانتخابي!.
لكن الأمر الغائب عن هذه الجماعات المتناحرة المتكالبة على المال والسلطة، والضالعة في الفساد والجريمة، أن العالم كله يراقب جرائمها وفسادها، وأن الشعب العراقي لن يقبل بها وسوف يجد الوسائل الناجعة للتخلص منها. لم يستطع حاكم أن يبقى طويلا عبر القتل والقمع، فكلما توغل في الجريمة ازداد الرفض الشعبي له ودنت ساعة نهايته. وفي هذا العصر، الذي يزداد فيه العالم تكاملا، لا يمكن إخفاء أي جريمة أو معلومة، والمجتمع الدولي لن يبقى صامتا تجاه الفساد وارتكاب الجرائم، لذلك لن يفلت الفاسدون والقتلة من العقاب.