حميد الكفائي يكتب:
كيف تختلف الأزمة الدولية الحالية عن سابقاتها؟
رغم التطورات العلمية والاقتصادية المتسارعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، والثروة الهائلة المتراكمة في العديد من بلدان العالم، فإن الأزمة السياسية والاقتصادية الحالية، التي نتجت عن جائحة كورونا ابتداءً، ثم تفاقمت نتيجة للحرب الروسية-الأوكرانية، تعتبر الأخطر في نظر العديد من الخبراء.
وقد يتساءل البعض، لماذا كان عهد الحرب الباردة، وسباق التسلح الخطير، والصراع الأيديولوجي الوجودي المتأجج بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، أفضل من هذا العصر الذي تقلصت فيه الصراعات الأيديولوجية، وتسيَّدت فيه الرأسمالية الغربية دون منازع؟ وحتى الصين، الشيوعية رسميا، بدأت منذ ثلاثة عقود تنهج نهجا اقتصاديا رأسماليا!
ولماذا أصبحنا ننظر إلى عهد الصراع بين الحِلْفَين العسكريين العملاقين، الناتو ووارسو، حيث الرؤوس النووية المتقابلة، وحالة الإنذار القصوى واقتراب الأصابع من أزرار الرؤوس النووية أحيانا، بأنه أكثر أمانا من هذا العصر، الذي اختفى فيه حلف وارسو كليا، وانضم معظم أعضائه إلى حلف الناتو، وأصبحت فيه القوى الرأسمالية الغربية أقوى عسكريا وأغنى اقتصاديا وأكثر تطورا علميا وأسرع لوجستيا واتصاليا؟ بل أصبحت الوسائل الدبلوماسية والتعاون الدولي هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الدولية، خصوصا بعد تجربة الحربين الكونيتين المدمرتين في القرن الماضي.
إنه فعلا أمر محير لكنها الحقيقة، ويمكن أن يُعزى السبب إلى طبيعة الصراع، فهو صراع على الثروة أكثر منه على الأيديولوجية، وكذلك إلى غياب التفاهم بين القوى المتصارعة، وصعوبة الاتفاق على القضايا الخلافية، خصوصا فيما يتعلق بالنزاع بين روسيا وأوكرانيا. فلا الروس مستعدون للتراجع عن تدخلهم في أوكرانيا، والاعتراف بالهزيمة ولعق الجراح، ولا الغربيون مستعدون للتساهل في عملية التجاوز على سيادة دولة مستقلة ديمقراطية، يعتبرونها، وتعتبر نفسها، جزءا من العالم الغربي.
في السابق كان الطرفان يعرفان حدودهما ويعترفان بـ"حقوق"، أو حدود ومناطق نفوذ، كل منهما، رسميا على الأقل، وكانا يعلمان جيدا بأنهما منشغلان بمحاربة بعضهما البعض بالإنابة في مناطق العالم المختلفة، من أمريكا الجنوبية إلى جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط وآسيا الصغرى وأوروبا.
وكانا أيضا منشغلين بقلب أنظمة الحكم في الدول الأخرى، الضعيفة نسبيا، لتعزيز نفوذهما، على الرغم من وجود مناطق محرمة كليا على الطرفين، دول أوروبا الغربية مثلا محرمة على الاتحاد السوفيتي، ودول أوروبا الشرقية محرمة على الولايات المتحدة، لأهميتها للطرف الآخر، أو لعدم جدوى تغيير الأوضاع فيها لصالح أيٍ من الطرفين المتصارعين.
كما لا ننسى أنهما تقاسما النفوذ بعد الحرب العالمية الثانية، وحصل كل منهما على (حصته) من الغنائم، فألمانيا، الدولة التي تسببت في قيام حربين كونيتين، وكانت قوة عملاقة لا يستهان بها، قُسِمت إلى شطرين، متصارعين أيدولوجيا، وحصل الأمر نفسه في كوريا وفيتنام وأذربيجان، بل حتى اليمن قسمت أيديولوجيا إلى شطرين، وإيران كادت أن تنقسم، لكن تجربة (جمهورية مهاباد الكردية) لم تدم طويلا لعدم توفر الظروف المواتية لها.
وحتى العملاق الصيني انقسم أيديولوجيا إلى شطرين، غير متكافئين، هما الصين الشعبية، التي تشمل البر الصيني كله، والصين الوطنية في جزيرة تايوان، التي فر إليها أركان النظام الصيني السابق بعد انتصار الشيوعية في البر الصيني، بينما بقيت هونكونغ تابعة إلى بريطانيا، وكانت فعليا ضمن المعسكر الغربي حتى عام 1997، عندما عادت إلى الصين الشعبية، التي اعترف العالم بها كممثلة شرعية للأمة الصينية عام 1971، وتسلمت مقعد الصين الدائم في مجلس الأمن، الذي كانت تشغله الصين الوطنية. لكن إعادة هونكونغ إلى الصين، وفق اتفاقية المئة عام المعقودة بين الطرفين، قد حصل ضمن شروط أهمها احتفاظ هونكونغ بطابع الحياة الغربية والاقتصاد الرأسمالي.
غير أن الأزمة العالمية الحالية مختلفة عن سابقاتها، وقد تكون أكثر خطورة، إذ يواجه العالم ثلاث أزمات متداخلة في آن. الأزمة الصحية، التي خلفتها جائحة كورونا، والحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا، التي لم تعد ثنائية، بل تشترك فيها دول عديدة بشكل مباشر أو غير مباشر. وأزمة اقتصادية خانقة قد تولد ركودا تضخميا، والذي يعرف في الاقتصاد بـStagflation، وهو المصطلح الذي ابتدعه وزير المال البريطاني، إيان مَكلاود عام 1965، عندما نَحَتَ هذه الكلمة من كلمتين هما التضخمinflation والركود stagnation، وذلك لتصاحبهما معا.
وتعالج الدول الصناعية التضخم برفع أسعار الفائدة، كي تغري المستهلكين بتوفير أموالهم وكسب الأرباح عبر تلقي الفائدة، لكن هذا الإجراء يقود أيضا، خصوصا إذا استمر طويلا، إلى تقليص الأموال المتوفرة للاستثمار، وتردد الشركات والأعمال في الاقتراض بأسعار فائدة مرتفعة، سواء أكان لإنشاء مشاريع جديدة، أو لتوسعة المشاريع المستمرة وإدامتها وتطويرها، الأمر الذي يقود بدوره إلى انخفاض الإنتاج وارتفاع البطالة، بينما يسبب أزمات مالية في الاقتصادات النامية، لأنه يحرمها من القروض الميسرة المنخفضة الكلفة، كما حصل في السبعينيات وأدى إلى انهيار اتفاقية بريتون وودز للتعامل النقدي العالمي.
وتخشى الاقتصادات الرأسمالية كثيرا من التضخم لأنه يخفِّض قيمة المدخرات ويخلق إرباكا في الأسعار والأسواق وسوق العمل ويدفع أصحاب الأموال والشركات إلى التريث في الاستثمار والتوسع، حتى يحصل استقرار في أسعار المواد والعملة، لذلك فإن الإجراء المتبع هو رفع أسعار الفائدة، من أجل تشجيع التوفير وتقليص الأموال المتوفرة للإنفاق من أجل الضغط على الأسعار وتخفيضها. لكن الإجراء الأخير له تبعات مدمرة أحيانا، خصوصا في حالة حصول الركود التضخمي، الذي يحصل في حال استمرار التضخم مرتفعا لفترة طويلة.
يتوقع البنك الدولي أن معدل التضخم سوف يستقر العام المقبل، لكنه سيبقى فوق التوقعات التضخمية في العديد من الاقتصادات العالمية، ويحذر من أنه إذا ما بقي مرتفعا، فإن النتيجة ستكون ركودا تضخميا يمكن أن يُحدِث كسادا عالميا حادا، ترافقه أزماتٌ مالية في بعض الاقتصادات النامية.
ويقول رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، إن بلدانا كثيرة لا يمكنها تجنب الكساد في الفترة المقبلة، لذلك لابد من تشجيع الإنتاج وتجنب فرض القيود على التبادل التجاري، وهناك حاجة ماسة لإجراء تغييرات في السياسات النقدية والمناخية والضريبية، إضافة إلى إجراءات التعامل مع الديون المتراكمة، من أجل علاج مشكلتي سوء تخصيص الأموال والتفاوت في المداخيل.
ويعزو رئيس البنك الدولي تلكؤ النمو الاقتصادي إلى تضافر عوامل عدة، منها الحرب في أوكرانيا، والإغلاق المتكرر في الصين، الناتج عن جائحة كورونا (وفشل لقاح ساينوفام الصيني في كبحها)، والإرباك الحاصل في إمدادات المواد الضرورية، وأخيرا احتمالات حصول الركود التضخمي.
لقد شهد العالم أزماتٍ اقتصاديةً خطيرة من قبل، منها مثلا الركود التضخمي الذي أدى إلى انهيار نظام بريتون وودز النقدي في السبعينيات، وكانت تلك الأزمة خطيرة، إذ تخلى العالم إثرها عن مقياس الذهب وارتباط سعره بالدولار، وقد ساهمت الخلافات بين الدول الغربية على حصولها، خصوصا سياسات فرنسا الديغولية، المناهضة للولايات المتحدة، إذا أمر الرئيس ديغول البنوك الفرنسية ببيع ما بحوزتها من الدولار الأمريكي بهدف إضعافه، وقد تسبب فعلا في خفض سعره، وكان هذا التصرف الفرنسي مستهجنا حينها، خصوصا وأنه يتنافى مع بنود الاتفاقية النقدية، التي كانت فرنسا جزءا منها، ويستهدف دولة عظمى حليفة لفرنسا، في أوج الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي.
الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، هي الأخرى كانت خطيرة، وقد تبعتها أزمة مالية في أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية، ألا وهو البرازيلي عام 1999. لكن دول العالم الكبرى تعلمت الدروس من الأزمات السابقة، وأدركت أن التعاون بينها ضروري لمواجهة الأزمات الاقتصادية، التي لا تتوقف في العادة عند بلد معين، بالنظر لتداخل الاقتصاد العالمي الحديث. وقد ساهم هذا الإدراك في تفادي الأزمات والتغلب عليها عبر اللجوء إلى القنوات الدبلوماسية لحل الخلافات، بدلا من الصراعات العسكرية.
غير أن مثل هذا التعاون لم يعد قائما، بينما يواجه العالم الآن خطرا مزدوجا. فالآثار المدمرة التي خلفتها جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي على مدى عامين، والتي استنزفت الاحتياطات المالية للكثير من الدول، حتى الغنية منها، قد تبعها اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، في وقت كان العالم يتلمس الطريق لإيجاد الحلول المناسبة للتراجع الاقتصادي الناتج عن الجائحة.
والحرب في أوكرانيا لم تكن مجرد حرب ين دولتين متجاورتين، بل ألقت بظلالها على الأوضاع الاقتصادية في معظم دول العالم، إذ إنها ضاعفت أسعار الطاقة، بسبب فرض الدول الغربية عقوبات على روسيا، ما انعكس سلبا على الإنتاج والنشاطات الاقتصادية كافة، وأدى إلى ارتفاع معدل التضخم بشكل متسارع، وأوقفت إمدادات القمح العالمية، الأمر الذي خلق، أو من شأنه أن يخلق، أزمة غذاء عالمية خطيرة، خصوصا وأنها أوقفت تصدير القمح من دولتين رئيسيتين لإنتاج القمح العالمي، وهما روسيا وأكرانيا.
وقد دفع ذلك الكثير من الدول، بينها الهند مثلا، وهي منتج كبير للحبوب، إلى إيقاف صادراتها من الحبوب، بهدف توفير الغذاء لمواطنيها، لكن هذا الإجراء فاقم الأوضاع في البلدان الأخرى خصوصا الفقيرة منها، التي لم تعد قادرة على دفع الأثمان العالية للقمح والمنتجات الغذائية الأساسية. وحذَّر المبعوث الأمريكي للأمن الغذائي العالمي، كاري فاولار، من أن أزمة الغذاء العالمية لن تختفي قريبا، بل قد تستمر لثلاث سنوات وتؤثر على العديد من الدول، خصوصا في أفريقيا والشرق الأوسط.
وما يزيد الأزمة تفاقما هو الإنفاق المتسارع على التسلح في العديد من دول العالم، خصوصا في أوروبا، وبدلا من أن تذهب الأموال إلى مشاريع الاستثمار في التطوير والتنمية الاقتصادية، أخذت تتدفق على الجيوش ومصانع الأسلحة. ويتوقع البنك الدولي أن النمو الاقتصادي العالمي سينخفض بنسبة 2.8% هذا العام، مقارنة بـ 5.7% في العام الماضي (الذي تخلله إغلاق شامل لمعظم النشاطات في دول عديدة)، وأنه سيبقى بهذا المستوى خلال عامي 2023 و2024، بينما سينخفض معدل دخل الفرد في البلدان النامية بنسبة 5% هذا العام.
ويقول أيهان كوز، كبير الاقتصاديين في البنك الدولي ومدير مجموعة الاحتمالات في البنك، والمسؤول الأول عن تقييم الاقتصاد الكلي العالمي، إن على البلدان النامية أن توازن بين الرصانة الضريبية، المطلوبة لإدامة التنمية، مع تأثير ارتفاع الضرائب على مواطنيها الفقراء. لكن التنظير شيء، والواقع العملي شيء آخر، وأن خيارات الدول الفقيرة ليست كثيرة وهي تواجه مستقبلا غامضا، وربما تحدث مجاعة في العديد من الدول، خصوصا إن أصرت روسيا على مواصلة حصارها على أوكرانيا ومنعها من تصدير القمح إلى العالم.
يتفق عديد من الخبراء على أن الأزمة الدولية الحالية معقدة ومتداخلة، لكنها خطيرة، ويمكن أن تتفاقم بسرعة إن لم يتوصل الفرقاء إلى حلول عملية. لا يلوح في الأفق أي حل للأزمة، لكن العمل على إيجاد معالجات لتأثيراتها مستمر. ومن هذه المعالجات إيجاد مصادر بديلة للطاقة والغذاء، وفي هذه الأثناء، سوف تزداد المعاناة في مناطق عديدة من العالم. أما إذا اتسع نطاق الحرب ليشمل دول أخرى، فإن العالم سيقف على أعتاب حرب كونية جديدة قد تكون الأخطر في تاريخ البشرية.