العراق

الموصل وحلب.. مقاومة التطرف والطائفية

الموصل وحلب مدينتان تاريخيتان كتب لأهلهما الزمن أن يواجها غزوات الطامعين والحصار والدمار والتفكك، فتعاونتا في الصمود وهزمتا الأعداء. ولعل أشهر شراكة كما يقول المؤرخون وقوف حلب بقيادة واليها الوزير حسين باشا القازوقجي إلى جانب الموصل في دفاعها الأسطوري ضدّ حملة نادرشاه على الموصل وحصاره لها 1743 ميلادي، وكانت بقيادة واليها الوزير، حسين باشا الجليلي، وقد انتصرت على ذاك التنين انتصارا تاريخيا.

لكل من حلب والموصل خصوصيات تميزهما حيث تتشابهان في التنوع الثقافي، وهما مدينتان عربيتان كانتا موطنا للسريان والآراميين والأكراد والترك. كلتا المدينتين تشكلان عقدة استراتيجية في الشرق الأوسط، فإذا كانت الموصل هي المركز الطبيعي للدخول إلى جبال كردستان، ومنها إلى قفقاسيا وإيران، فإن حلب هي الأقرب إلى البحر المتوسط والأناضول.

واليوم تتصاعد الهجمة على هاتين المدينتين ويتعرض مستقبلهما للتفكك والانهيار عن طريق نزوح أهليهما. فقد تم تدمير حلب وهجرة أكثر من 80 بالمئة من أهلها، وذات المصير ينتظر أهل الموصل بعد ثلاث عشرة سنة من الإهمال والإقصاء والتهميش، حيث نمت داخلها الخلايا الإرهابية القادمة من سوريا وأشاعت في المدينة الخوف والتدمير. وسبق لحكومة بغداد أن وجهت الاتهامات لنظام بشار الأسد في دمشق وشكته إلى مجلس الأمن، لكن تبدل الحال وأصبح حليفا لتنفيذ مشروع التفكيك، ولتنفيذ المقايضة الرخيصة من حكومتي بغداد ودمشق للحفاظ على حكمي الفرد المستبد والطائفي المواليين لطهران الطامعة. فاضطر الآلاف من الموصليين للهجرة إلى كل من حلب ودمشق. ويشهد كلّ الذين احتموا بمدينة حلب على حسن استقبال السوريين الطيّبين عموما لأولئك النازحين والفارين العراقيين منذ العام 2005 وحتى 2010.. ولم يكن أحد يدري أنّ الدمار سيلحق حلب ومدنا سورية أخرى لاحقا.

الموصل وحلب وبعد أن كانتا مركزا للإشعاع الحضاري والمدني وعنوانا للتفاعل بين المكونات والطوائف والأعراق، أصبحتا مركزا لأبشع عملية إبادة بشرية وتدمير شامل في ظل تحول شمولي في استراتيجيات المصالح، حين فتكت حروب الإبادة التقليدية التي اقترفها الكبار في الحربين العالميتين الأولى والثانية وسببت الكوارث الإنسانية بمقتل عشرات الملايين في اليابان وألمانيا وشرق آسيا، وانتقلت إلى نمط وحشي جديد بعد انسحاب قائدة التفرد الدولي الولايات المتحدة الأميركية بعد فشلها في العراق، ولن يكون مستقبلها أفضل في ظل إدارة دونالد ترامب.

روسيا اليوم تنفض غبار هزائمها العسكرية في أفغانستان وغروزني وغيرها، لتفرض خرائط النفوذ الاستراتيجي المعتمد على نوع جديد من أدوات الإبادة والتمزيق الطائفي (داعش والميليشيات الطائفية) في كل من العراق وسوريا وتنفيذ مخططات الخرائط الجديدة للمنطقة بالتدمير الشامل للمدن وتهجير السكان والوصول إلى هدف كسر رموز الهوية العربية للمدن الكبرى في التاج السوري (حلب) والتاج العراقي (الموصل) لبناء معمار طائفي قائم على كذبة مداعبة مشاعر مكونات طائفية تحت أكاذيب المظلومية والثأر التاريخي وغيرها من الدعوات ضد مكونات أخرى تتهم بالإرهاب، بعد توظيف أقذر منظمات الإرهاب المصنوعة من لعبة الدين والمذهب، والنتيجة هي سحق مكونات الشعبين العراقي والسوري جميعا، شيعة وسنّة، عربا وأكرادا وتركمانا، لأغراض مشروع النفوذ والتوسع في المنطقة لكل من روسيا وإيران.

روسيا بوتين اليوم في أعلى درجات النشوة الإجرامية وعرض القوة، وأميركا تراقب الفصول الأخيرة من انسحابها المخجل عن إدارة العالم. ولعل من مظاهر السخرية أن تتم المداعبات الإعلامية بين روسيا الصاعدة على أنقاض أميركا المهزومة. فوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يخاطب زميله الأميركي جون كيري “نحن هنا في حلب نحارب داعش”، فيجيبه الآخر “ونحن هنا في الموصل نحارب داعش أيضا”، فيما الصغار يطلقون دعابة على مقاسهم. فبشار الأسد يدعو فريق كرة القدم لقوى المعارضة السورية للدخول في مباراة مع الفريق الحكومي على الأطلال المحروقة وبين أشلاء الأطفال الممزقة في حلب، فيما تطلق الطفلة السورية بانا نداءها الصارخ للإنسانية عبر موقع تويتر “لم أعد أستطيع الحياة تحت أنقاض بيتنا المهدم.. عندما نموت واصلوا الحديث عن نحو 200 ألف لا يزالون في الداخل، وداعا”. فتستجيب لندائها مؤلفة المسلسل الشهير “هاري بوتر”، جيه كيه رولنج، بإهدائها تلك المؤلفات الإنسانية.

الأميركان ارتكبوا أكبر حماقة أوصلتهم إلى الحضيض، فقد احترقت شعاراتهم المزيّفة في عهد جورج بوش الابن لإزالة النظام الدكتاتوري بالعراق تحت كذبة إزالة أسلحة الدمار الشامل، ثم الدعوة لقيام نظام ديمقراطي بديل أعطى مشروعية التسيّد الطائفي السياسي، وإقامة نظام المكونات الطائفية. وتتكرر المهزلة في عهد باراك أوباما الذي استكمل المشروع ذاته في سوريا، لكن بطريقة أكثر خبثا ودهاء حين حمى النظام الدكتاتوري الفردي لبشار، وأوقف المشروع العسكري بإزالته وإقامة حكم إرادة الشعب السوري تحت ذريعة “إن البديل سيكون حكم الجهاديين الإسلاميين”، في حين أن المعارضة السورية المعترف بها دوليا لم تكن قيادتها بيد المتطرفين، وهي معارضة اختلفت عن المعارضة العراقية السابقة بالشكل فقط، فكلا المعارضتين رهينتان للولاء الإقليمي.

النتيجة أصبحت واحدة هي فرض سيادة الميليشيات والطوائف السياسية لكي تتحكم بمصير الشعبين العراقي والسوري، وإزالة مقومات الدولة الحديثة وتحويل سكان المدن الكبيرة إلى الملايين من اللاجئين خارج أوطانهم أو نازحين خارج بيوتهم.

كلا المدينتين الموصل وحلب لا تحملان هوية طائفية أو عرقية تسمح بتمرير اللعبة الجديدة، وكان المطلوب إنتاج بيئة صراع مفتعلة بإدخال المتطرفين المسلحين، السنة والشيعة، ليشتعل الصراع وينتج وضعا ديموغرافيا وسياسيا يتناسب مع مشروع إعادة الأوضاع في كل من العراق وسوريا إلى ما قبل الدولة الوطنية. ففي العراق تسن قوانين مشروعية “الميليشيات المسلحة” و”قانون العشائر” ولكي تستكمل اللعبة لا بد أن يقوم بهذا الدور الظلامي التخريبي أمراء حرب من نوع جديد يتغلفون بالثوب الطائفي المقصود، سنيّا، ليقوموا بدور حصان طروادة ويتسللون إلى مواقع الوجاهة الاجتماعية (العشائر) مع الاحترام للقبائل العربية ووجهائها الممتلكين للمآثر الوطنية والعروبية الخالدة. هؤلاء المرتزقة يتقنون اللعبة عن طريق خلط السطور على الورقة الواحدة لتبدو الأوراق مرتبة ومقبولة. فمثلا من يدعو إلى قانون “العشائر” هو سني في موقع متقدم في الواجهة التشريعية للبلد، ومن يسن قانون “الحشد العسكري” البديل للجيش الوطني هو “شيعي” حاكم للبلد. أما في سوريا يكون الدور القيادي في طرد داعش للميليشيات من لبنان والعراق بعد إضعاف وتفكيك الجيش السوري، ففي نهاية المعركة وهي طويلة ستكون الزعامة السياسية للميليشيات بعد نهاية دور نظام بشار، إذا لم يتمكن من تمثيل الدور الطائفي بإتقان، في ظل المشروع المتسارع لتقسيم المنطقة طائفيا وعرقيا تتوزع حصصه كل من إيران السائرة على طريق تسيّد الخليج والعراق ولبنان ولديها حصة مع روسيا الطامحة لتثبيت مواقعها الاستراتيجية على شكل قواعد عسكرية في سوريا. أما أميركا فطريقها لاستعادة نفوذها في المنطقة سيكون صعبا، إن لم تتبدل الموازين في عهد ترامب.

المخاطر الاجتماعية والإنسانية ستكون أكثر سوءا في الأيام المقبلة عنوانها ما تعانيه المدينتان المنكوبتان، الموصل وحلب، من كوارث، ماذا ينتظر سكانهما بعد انطفاء لهيب نيران الطيران الروسي والأميركي، والذين سيتمكنون من العودة لأطلال تلك الديار، وما مصير جيل كامل منعته عصابات داعش في الموصل من مواصلة التعليم المدني، وأصبح مكرها على التعليم الظلامي المتطرف. أو مصير الحلبيين الذين تركوا جامعاتهم ومدارسهم إلى ديار اللجوء المهينة، في ظل تهديم البنية التحتية لكلا المدينتين. وكيف سيكون حال صراعات الحقوق المستلبة والممتلكات المسحوقة، في ظل صمت دولي مخز يتحول فيه ممثلو الأمم المتحدة إلى موظفي إحصاء لأعداد القتلى والجرحى واللاجئين وعجز كامل عن تقديم أدنى المساعدات الإنسانية، وصمت عن إدانة سفاحي قتل الأطفال والأبرياء المدنيين. كتب على كلا المدينتين أن تصمدا وتقاوما الموجة الظلامية والدمار والموت والتفكيك الطائفي.

كاتب عراقي